يستطيع أى صعلوك أن يطفئ أنوار البرلمان، كما يستطيع أى بلطجى وأى لص جائع أن يسرق كل ما تقع يده عليه، مما يمكن بيعه لكى يقتات منه: كبْلات نحاسية، فلنكات السكك الحديدية، حتى الأغطية الحديدية للمجارى.. أى صعلوك يستطيع - فى غفلة من الحراس- أن يرتكب هذه الصغائر. فالمسألة لا تحتاج إلى عبقرية لواء أركان حرب، مهمته الأصلية حراسة البرلمان، ليعمل نواب الشعب فى طمأنينة وأمان، فإذا به -بدلا من ذلك- يمنع النواب من الوصول إلى مبنى البرلمان ويطفئ أنواره! نعلم أن المجلس العسكرى يمتلك السلطة والعساكر المسلحين، ولديه مستشارون ووزراء يمتطيهم طائعين، لذلك يستطيع أن يتمحّك فى قرار مشبوه أصدرته المحكمة الدستورية ليحلّ البرلمان، ويتباطأ فى إعلان نتائج انتخابات الرئاسة، لعل القلق والسهر والإجهاد يحل بالجماهير فتخمد وتنصرف من الميدان يلتمسون الراحة فى بيوتهم.. إنها حلقة من سلسلة العقوبات الجماعية التى يمارسها المجلس على الشعب بأسره، بسبب انتخابه للإسلاميين نُوَّابًا فى البرلمان، ولتصعيد مرشّحهم للرئاسة، فكل هذه جرائم فى نظره.. لماذا؟! لأنها تناقض الشرط الأمريكى الأساسى للمعونة والدّعم، والمنافع الجمّة التى التزمت بها أمريكا للنخبة العسكرية الحاكمة، بشرط ألا يسمحوا للإسلاميين بالاقتراب من السلطة.. يستطيع المجلس العسكرى أن يفعل كل هذا، ولكنه لا يستطيع أن يطفئ ضوء الشمس.. فى إطار هذا المعنى كانت حجة أبى الأنبياء التى ألجَمَ بها الطاغية المُتَألِّه عندما زعم أنه يحيى ويميت، وأنه قادر على كل شىء.. تحداه بهذه الآية: "إن الله يأتى بالشمس من المشرق فأْتِ بها من المغرب.. فبُهتَ الذى كفرْ.."، ذلك لأن التحكم فى الظواهر الطبيعية والسنن الكونية خارج طاقة البشر، وخارج قدرة الطُّغاةِ والمتألّهين.. وكذلك الشأن فى سنن الله فى المجتمعات والشعوب؛ فإرادة الشعوب عندما تثور، وتصمم على بلوغ أهدافها فى الحرية والانعتاق من ربقة العبودية، هى من سنن الله فى المجتمعات الإنسانية، لا مردّ لها. وما يسمونه ب"الإعلان الدستورى المكمّل" -علاوة على أنه باطل وغير شرعى- هو مِعْوَلُهم الأخير لهدم الثورة وإعادة الشعب إلى حظيرة العبودية والفساد الذى داسه الشعب فى ثورته تحت الأقدام.. إن هذا الإعلان [يكمّلُ] مسلسل العار الذى نما وترعرع فى ظل الحكم العسكرى.. إنه وصْمة عار على من كتبه وعلى من قام بتنفيذه.. وبقعة سوداء على وجوههم جميعًا لا تغسلها كل مياه النيل، وأٌقْتَرِحُ أن يشرع الثوار فى إنشاء سجل أسود بأسماء أعداء الشعب وأعداء الثورة، وأن يكون على رأس هؤلاء أسماء جميع الذين شاركوا فى صناعة هذا العار.. من حق الأجيال القادمة علينا أن نبلّغهم تجربتنا ليعرفوا ما أصبْنا فيه فيحرصوا عليه، وما فشلنا فيه فيتجنبوه، وليعلموا كيف خَدَعَنَا المجلس العسكرى بوعوده.. بينما كان يعمل طول الوقت عكسها: عمل على تمزيق القوى الثورية وضرب القوى السياسية بعضها ببعض، واستعان –فى هذا- بأدواته الإعلامية الكاذبة، وبأموال الشعب التى نهبتها عصابة من لصوص العهد البائد.. وعطّل كل محاولة لإصلاح الفساد المستشرى فى الشرطة والإدارات الحكومية.. وصنعت حكوماته المتعاقبة الأزمات متلاحقة واحدة بعد الأخرى: فى الأمن والاقتصاد، والسلع والأسعار، حتى يئس الناس من تحقيق أهداف الثورة، فى الحياة الكريمة الآمنة، وفى القصاص العادل.. فلما ظن أن الشعب قد أدار ظهره للثورة.. وتوهّم أنها فى حالة احتضار، خرج بوجهه السافر يحصد الميراث، ويعلن إلغاء البرلمان المنتخب، ويسطو على السلطة التشريعية ضاربًا بإرادة الشعب عرض الحائط.. واحتياطًا من أن يَضّطر إلى إعلان النتيجة الحقيقية بفوز مرشح الشعب والثورة أصدر ما سماه بالإعلان الدستورى المكبّل، لشل قدرة هذا الرئيس المحتمل أن يحقق مطالب الثورة أو يقوم بالإصلاح المنشود، وأصدر قرار الضبطية القضائية لضباط المخابرات والشرطة العسكرية لقمع الاحتجاجات المتوقعة.. ظنّا منه أنها ستكون انتفاضات غضب، يائسة من فئات محدودة، مقدور عليها؛ بالتخويف واستعراض القوة العسكرية فى الشوارع، وبوسائل التكتيك العسكرى الذى جربه فى العباسية مؤخرًا.. لم يكن فى الحسبان أن يكون رد الفعل انتفاضة الملايين، وعودة لُحمة الشعب بكل طوائفه وفئاته وقواه الثورية والسياسية، مُلتئمةً حيةً عفيَّةً، فى ميدان التحرير، كما كانت فى قمتها خلال الأيام الأولى لثورة 25يناير 2011. لم يعد أمام المجلس العسكرى إلا خيارين: طريق السلامة، بإعلان النتائج الصحيحة لفوز مرشح الثورة، التى أصبحت وثائقها فى أيدى الناس، وإعادة الأنوار إلى البرلمان، وإلغاء الإعلان المشئوم، وإلغاء قرار الضبطية القضائية.. والاستعداد لتسليم السلطة لرئيس الشعب المنتخب وللبرلمان المنتخب.. وهذا هو طريق السلامة للجميع: للشعب وجيشه، وللمجلس العسكرى نفسه.. ما عدا ذلك فهو طريق الندامة الأكيد، ومن يصرّون على سلوكه لن يكون مصيرهم بأفضل من مصير القذافى، إنه الطريق الذى يدفعنا إليه أعداء الأمة (أمريكا وإسرائيل)، ليتفرّجوا على مصر وهى تُدَمَّر، وعلى جيشها وهو يتشقق وينهار؛ كما حدث فى ليبيا القذافى ويحدث الآن فى سوريا بشار.. الذين يحلمون بالقضاء على الثورة العائدة واهمون؛ يخدعون أنفسهم، ويبالغون فى تقدير ذكائهم، وحيلهم التى يظنون أنهم – بها- أكثر براعة وأكثر إتقانًا من الطغاة السابقين، إنه نفس الوهم وخداع النفس الذى يمارسه الطغاة فى كل زمان وفى كل مكان.. إنه طريق الندامة المظلم، نهايته محتومة؛ الموت البشع لأصحابه والدمار للأمة.. ولاتَ حين مناص! إذا كنتم تكرهون الاستماع إلى نذير من أهليكم فاستمعوا إلى نصيحة الأمريكى العجوز "زْبِجِنْيو بِرِجِنيسْكى" مستشار الأمن القومى الأسبق، ينبه الحكومة الأمريكية وحكومات العالم: أن الوعى السياسى للشعوب قد اقترب من ذروة اكتماله، وأنه قد أصبح عامًا وشاملاً، وأن الشعوب قد استيقظت، ولم تعد تقبل العيش تحت أى نظام قمعى مستغل، ولن تسمح للنخبة الحاكمة، أن تحتكر السلطة والثروة لنفسها إلى الأبد، فإذا وقفتم فى طريقها، فلتنتظروا الانفجار المروّع.. هذا عصر الثورات الشعبية الكاسحة.. إن ما يحدث فى ميدان التحرير، هو انبعاث جديد لثورة تريد أن تكمل مسيرتها، وتحقق أهدافها بقوة دافعة أكبر.. ثورة لا مردّ لها.. فاستفيقوا قبل أن يجرفكم الطوفان! [email protected]