يحلو للعاملين في مهنة البحث عن المتاعب.. أن يصفوا مهنتهم "بصاحبة الجلالة".. فالحقيقة تاج على رأسها.. وحلتها الملكية تتكون من ثلاثة أثواب: "الموضوعية".. "الدقة".. "الوضوح".. وهي القواعد الأكاديمية الثلاث التي تعلمناها في كليات الإعلام وفي " دسك" الصحف العريقة باعتبارها القواعد المؤسسة لحرفية التحرير الصحفي وصياغة العناوين الرئيسية. ولكن.. صاحبة الجلالة لا تكون دائما محتشمة بأثوابها الثلاثة.. ملتزمة بقواعدها المهنية.. فعندما تختلط أوراق الصحف بأوراق السلطة والبنكنوت.. تتحول عناوين الصحف إلى "عرض ستربتيز" تخلع فيه صاحبة الجلالة أثوابها واحدا بعد الآخر.. فتسقط الموضوعية ثم الدقة والوضوح.. ولا تبقى سوى ورقة التوت الهزيلة التي لا تكفي لستر العورة. وفي الصحافة المصرية.. نستطيع أن نرصد حالة ستربتيز واضحة جدا من هذا النوع.. تجسدها عناوين الصحف اليومية الثلاثة الرسمية (الأهرام والأخبار والجمهورية) وعنوان الصحيفة اليومية الوحيدة المعارضة (الوفد).. الحالة نرصدها يوم الخميس 17 نوفمبر سنة 2005.. في هذا اليوم كانت عناوين الصحف جميعها تتحدث عن موضوع واحد وهو المؤتمر الصحفي الذي أقامته اللجنة العليا للإنتخابات للإعلان عن النتيجة النهائية للمرحلة الأولى من الإنتخابات البرلمانية.. أي أننا أمام حدث واحد.. يقدم معلومات محددة من مصدر رسمي وهي معلومات تعتمد أساسا على الأرقام.. أي أنه لا يوجد مثال أفضل من ذلك للتفتيش عن معايير الموضوعية والدقة والوضوح في ضمير الصحافة المصرية (الرسمية والحزبية على حد سواء). فماذا قالت عناوين الصحف الرئيسية: صحيفة الأهرام قالت : " 68 مقعدا للوطني 54 للمستقلين و34 للتياراتِ الدينية و8 للمعارضة في المرحلةِ الأولى للانتخاباتِ البرلمانية " صحيفة الجمهورية قالت : " 113 مقعداً "وطني" 34 "إخوان" 12 "مستقلين" و5 "معارضة" صحيفة الأخبار قالت : " الحزب الوطني يكتسح غالبية المقاعد في الجولة الأولى من الإنتخابات" صحيفة الوفد قالت : " صفر للحزب الوطني في ثلاثين دائرة " ماذا يعني الانطباع الأول عن هذه العناوين .. هل يعني أن كل صحيفة قامت بتغطية انتخابات مختلفة في بلد مختلف .. أم أن لجنة الإنتخابات قامت بعقد مؤتمر صحفي منفصل لمندوبي كل جريدة ومنحت كل منهم أرقاما مختلفة لحدث واحد .. من الذي يضحك على من .. ولصالح من .. من المؤكد أن القارئ وأن حقه المقدس في الحصول على خدمة إخبارية وصحفية جيدة قد ضاع تماما في ظل حسابات سياسية وحزبية ضيقة .. وإذا كان من المبرر لجريدة حزبية مثل الوفد أن تخلع رداء الموضوعية بإعتبارها تتحدث بلسان حزب ومن الطبيعي أن تتحيز له .. فإن باقي الصحف الرسمية (المملوكة للشعب) ليس من حقها أن تخلع الرداء .. فضلا عن تقديم مغالطات في الأرقام (وهي المادة الإخبارية الأكثر استعصاء على التلوين) مأزق آخر وقعت فيه الصحف الرسمية وهي تتعاون مع ورطة الإخوان المسلمين .. فبقدر ما يمثل الإخوان مشكلة سياسية للحكومة .. يمثلون أيضا مشكلة تحريرية للصحف الرسمية .. بحيث لا يدري "الدسك المركزي " وهو يصوغ العناوين أي كلمة يستخدم.. هل يقول "الإخوان المسلمون" .. ويتجاهل كون الجماعة محظورة بحكم القانون .. أم يقول (جماعة الإخوان المحظورة) .. فيسقط في فخ التناقض بين الحظر والإشهار والدخول المعلن إلى معركة الإنتخابات .. من الواضح أن الصحافة الرسمية لم تتفق حتى الآن على مصطلح معين تتعامل به مع الجماعة المشاكسة (سياسيا وصحفيا) فحتى عند إعلان نتائج الانتخابات نجد صحيفة الجمهورية استخدمت كلمة (34 مقعدا للإخوان) .. بينما استخدمت صحيفة الأهرام كلمة ( 34 مقعدا للتيارات الدينية) لتحاول بذلك أن تهرب من الحرج وتتهرب من معايير الدقة والوضوح .. بينما هربت صحيفة الأخبار من الجدل كله بتركيزها على الحزب الوطني فقط باعتباره من وجهة نظرها قد (اكتسح الإنتخابات ).. وكفى الله "الدسك المركزي" شر القتال.. .. في زمن مختلف.. كان المصريون يستمعون في إذاعة بلدهم: "الله أكبر.. انتصر العرب".. واستيقظوا ليلتها على هزيمة مدوية ..وكانت النتيجة أن فقدوا الثقة في الإذاعة وأداروا المؤشر نحو مونت كارلو وبي بي سي وصوت أمريكا يبحثون في موجاتها البعيدة عن أخبار بلدهم .. وفي زمن آخر وجدوا نشرة أخبار التليفزيون الرسمي تبدأ بخبر "استقبل الرئيس فلان " .. وتنتهي بخبر "ودع الرئيس فلان" .. وكانت النتيجة أن بحثوا عبر موجات الفضاء عن أخبار بلادهم .. واليوم .. وبعد أن بدأ التليفزيون الرسمي يتعافى أو يتظاهر بالعافية .. هل يمكن أن يستيقظ المصريون كل صباح على عرض "ستربتيز" في الصفحات الأولى من جرائدهم الرسمية والحزبية .. ولا عزاء لصاحبة الجلالة. ----------------------------------------------------------------------------- العربية نت