وسط كم الأخبار الهائل الذى يتساقط علينا كل ساعة, تتوه بعض الأخبار التى يجرى بثها ونشرها فى سطور قليلة لكنها تحمل – عندى على الأقل - معانى كبيرة, أقلها أنها تبعث على الأمل وتؤكد أن الخير لا يزال موجودًا فى هذا البلد. تعرف غالبيتنا أزمة تشكيل اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور الجديد للبلاد, ورغم مرور ما يقرب من خمسة أشهر على تشكيل البرلمان إلا أنه لم يلتزم بالضوابط والموائمات السياسية أثناء تشكيل اللجنة, فأصدر القضاء الإدارى حكمه بحلها, ورغم الحكم فإن القوى السياسية عادت إلى صفتها الأصيلة وهى البحث عن المصالح الحزبية الضيقة على حساب المصلحة العليا للبلاد, فكان أن وجدنا التناحر والشقاق بين الأحزاب والفعاليات السياسية ووجود ميل عام لديهم لإرجاء تشكيل تأسيسية الدستور إلى ما بعد انتخابات الرئاسة. كانت نتيجة هذا التراخى المقصود أن تدخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصفته السلطة السياسية التى تدير البلاد, وعقَد اجتماعًا مع كل الأحزاب والقوى السياسية وحدد لهم جميعًا موعدًا للانتهاء من التوافق على معايير اختيار اللجنة التأسيسية, وخرجت القوى السياسية من اجتماع المشير وعقدت اجتماعًا طويلاً وموسعًا امتد إلى فجر اليوم التالى فى مقر حزب الوفد, "كل ده عشان تحديد المعايير ونسب كل تيار سياسى". كانت المفاجأة وقوع خلاف كبير بين ممثلى تيار الإسلام السياسى من ناحية وبين الأحزاب المدنية من ناحية أخرى، حيث رأى الفريق الأول بأن تكون النسبة 54% لصالحه مقابل 46% للطرف الآخر, بينما رأى تيار الأحزاب المدنية بقيادة حزب الوفد بأن تكون النسب مناصفة بواقع 50% لكل طرف. استمر الخلاف والجدل دائرًا بين كلا الطرفين وسط إصرار شديد لحزب الحرية والعدالة بأن تكون النسبة (بعد الفصال) 52% لهم مقابل 48% للتيار المدنى, وخوفًا من انتهاء الوقت المحدد دون الوصول إلى اتفاق, فقد تدخل رئيس حزب البناء والتنمية الذراع السياسية للجماعة الإسلامية وأعلن تنازل الحزب عن مقعديه اللذين حصلا عليهما فى تشكيل الجمعية, ومنحهما لشخصيات وطنية مستقلة وغير حزبية, مما يعنى تساوى حصص التمثيل مناصفة بين التيارات المدنية والدينية داخل الجمعية التأسيسية. هذا الموقف الرائع الصادر عن الجماعة الإسلامية وحزبها يؤكد عن حق, بالأفعال وليس بالأقوال, أن هذا الحزب وجماعته يضعون مصالح مصر العليا فى المقدمة وقبل مصالحهم الحزبية الضيقة, رغم أن وزن الحزب الوليد داخل الحياة السياسية ليس كبيرًا, كما أنه هو قيادته ينبغى عليهم التواجد فى لجنة صياغة الدستور الجديد, كما أن من كان مثلهم سيسعى للظهور الإعلامى فى فترة صياغة الدستور, لكن الجماعة وحزبها لم يلقوا بالاً لكل ما سبق, وعندما احتد الخلاف بين الكبار (اسمًا), ظهر معدن الصغير (عددًا) والكبير (مقامًا) ليعلن أن مصلحة مصر العليا. لم تقدم الجماعة الإسلامية تنازلها السابق فى الجمعية التأسيسية ثم تهرول هى وقادتها ومندوبيها إلى وسائل الإعلام للطنطنة والتفاخر بما فعلوه من تضحية فى سبيل الوطن (وهى فرصة لا تضيع عن كل سياسى ماكر)، بل المفاجأة أننا لم نعرف ما فعلته الجماعة سوى من بعض نواب الشعب الذين حضروا هذا الاجتماع, فخرجوا وكشفوا عما جرى بل ووجهوا التحية للجماعة على موقفها, مثلما فعل النائب عصام سلطان. عندى سؤال: لماذا أصر حزبا النور والحرية والعدالة على أن تكون نسبهم عالية وليست متساوية مع التيار المدنى, إذا كانت مصلحة مصر هى الهدف, ثم لماذا إصرار التيار المدنى على المناصفة؟. لم يعجبنى أداء كل الأحزاب التى شاركت فى الاجتماع, لكن فقط حزب البناء والتنمية, لذا أوجه التحية لهذا الحزب الكبير وللجماعة الإسلامية, وأكثر الله من أمثالكم فى تلك المرحلة الحرجة.