وصلنا في المقال السابق لظهور أتاتورك كقائد عسكري قوي حارب على عدة جهات وحقق انتصارات وحارب فكرة تقسيم تركيا - وللأمانة العلمية - لم يثبت أنه من أصول يهودية بل ثبت أن أرسلته أمه لمدرسة دينية ليصبح شيخاً لكن أباه فضل له العسكرية . كما أن السلطان عبدالحميد الثاني ليس آخر سلاطين الخلافة العثمانية ( خلفه ثلاثة خلفاء )وبزوغ نجم أتاتورك كان بعده بأكثر من عقد من الزمان ولم تكن الحرب العالمية الأولى مؤامرة على دولة الخلافة فقد كانت تحالفات غير دينية ومع نهايتها انهارت الإمبراطورية الألمانية، الإمبراطورية الروسية، الإمبراطورية النمساوية المجرية إضافًة الدولة العثمانية وبدأ عصر الاستعمار الجديد من الدول المنتصرة وظهرت الدول الوطنية أو الدولة القُطرية ( بضم القاف ) . وقد كان إنموذج الخلافة العثمانية ظرفاً تاريخياً توافق عليه المسلمون في زمن الامبراطوريات بالحكم الوراثي وانتفت عنه الشورى وهيمن عليه الجنس التركي والقوة العسكرية وأُهملت اللغة العربية ومباحث الفقة والتطور الصناعي . قام أتاتورك بحزمة من القرارات فألغى استخدام الحروف العربية في اللغة التركية ( كما يفعل العرب اليوم باستخدام الحروف الانجليزية في المحادثات عبر الانترنت ) ومنع الأذان وحظر المظاهر الدينية في مؤسسات الدولة بالتوازي مع الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية ونظم التعليم غيرت وجة تركيا ولأنه علماني متشدد كان يعلم أن العلمانية ستأتي بالديمقراطية والتي ستأتي يوماً ما بالإسلاميين لذلك وضع الجيش حامياً للعلمانية طبقاً للدستور وهو ما سمح للجيش التركي التدخل عدة مرات . وفي أرض الحجاز (مهد الخلافة) تنامى الشعور القومي وبدأت الثورة العربية ضد العثمانيين وتشكلت الدول العربية عبر دول الانتداب أوالاحتلال أوالوطنين العرب الجدد بالإضافة للممالك الجديدة في الخليج وبدأت كتابة الدساتير العربية متأثرة بثقافة المحتل أو متماهية معه أو مطبقه لدستور الاحتلال نفسه .. ثم ظهرت الحركات الإسلامية وتعاونت مع الحركات القومية للتخلص من الإحتلال الغربي في مصر وفلسطين وليبيا والشام ويخرج الإحتلال وتبقى آثاره بما فيها الدساتير والتشريعات والأهم هو الفرد المسلم الذي تغير تماماً وتغيرت هويته في الملبس والمأكل والأولويات وهو ما لم تفهمه التيارات الإسلامية من منتصف القرن العشرين حتى الآن .. بعد جلاء الإستعمار كان تصادم القوميين مع التيارات الإسلامية قدراً لا فرار منه .. وهزيمة التيارات الاسلامية كانت أيضاً لا مفر منها لنفس الأسباب التي جعلت أتاتورك ينتصر وما أشبة اليوم بالأمس فمن هذة الأسباب :- أولاً : أتاتورك وتلاميذه يؤمنون إيماناً حقيقياً بأفكارهم شأنهم شأن ماركس وهرتزل وهتلر وخدمتهم الظروف التاريخية ولو ظهر أتاتورك أو ماركس أو هرتزل قبل ذلك بقرن من الزمن لعلقوا على أعواد المشانق . ثانياً: احتضان دول الاستعمار (من باب الانتهازية السياسية) لبعض الإسلاميين حتى يكونوا أداة ضغط تستغلها دول الإستعمار وهذا هو أسلوبهم المتبع عبر التاريخ ومأزق دائم للإسلاميين فلا يوجد طعام مجاني . ثالثاً: زيادة عدد اللافتات في طريق التيار الإسلامي جعل الناس متحيرة ومتشككة في نواياهم فضلاً عن اشتباك أبناء التيارات الاسلامية ضد بعضهم وتشرذمهم بين سلفيين واخوان وحزب تحرير وجهاديين . رابعاً : الدعاية السوداء عبر الإعلام الذي احتكره العلمانيون لأجيال حتى ظهور الإنترنت والقنوات الفضائية طبعاً في حال تعامل معها الإسلاميون كمحترفين بعيداً عن المزايدة والطائفية وعملوا على المشتركات . ونعود للسؤال الإجباري : هل هناك من ملتقى طرق بين دعاة التيارالإسلامي والتيار العلماني ؟ بالنسبة للتيار العلماني المتشدد ( دولة مدنية ضد الدين ) فمستحيل أن يجمعه مع التيار الإسلامي أي طريق وتصادمهم حتمي لا مناص منه والذي سيحدد المنتصر هي موقف جيوش هذة الدول وحالة الأقليات الدينية خاصة أن التيار العلماني ودول الإستعمار ستسمح بالديمقراطية وحقوق الإنسان ولكن بشرط عدم وصول التيار الإسلامي للسلطة لذلك هذه التجارب ستنتهي بالتصادم الشديد وسيصبح تصادمهم أكبر مصدر لتفريخ الإرهابيين لعقود قادمة . أما التيار العلماني الوسطي (صاحب شعار تحييد الدين ) فغالباً ما سينتهي به المطاف لعودة الإسلاميين عبر صناديق الإقتراع وعن طريق تيار محافظ أفرزته نظم التعليم والبيئة والمشاركة السياسية وغالباً ستكون مخططاته هي الحفاظ على الهوية العربية والثقافة الدينية والإصلاح الإقتصادي ومحاربة الفساد . وربما إستطاع الإسلاميون – لو نجحوا – بعد عدة عقود من الإخلاص الحقيقي للفكرة والشورى وليس بالولاء للجماعة أو للتنظيم أو لللافتات وعملوا على المشتركات وتبني موقف المؤسسات الدينية الرسمية وعدم دعم أو حتى الترويج أو إبداء التعاطف مع كل من يحمل أو يفكر في حمل السلاح فالسلاح حكرعلى الدولة مهما كان موقفك من هذة الدولة . ربما لو نجحوا لعقود صغيرة يستطيعوا عمل إتحاد يشبه الإتحاد الأوروبي محافظين على هويتهم الإسلامية ومقرين بما آل إليه العالم من حقيقة لا نستطيع إنكارها وهي أننا أصبحنا دولاً وطنية ( قُطرية ) بها مواطنون يحلمون بالمسكن والكساء والأمن ويحلمون لأبنائهم بالرخاء والسلام وأن إنتخابهم للتيار الإسلامي كان لتحيق أحلامهم ( كمواطنين ) وليس لتحقيق حلم التيار الإسلامي ( بالخلافة بمفهوم الهيمنة والتوسع ). والإسلاميون أتتهم أكثر من فرصة في باكستان والسودان والصومال وغيرها وستأتيهم فرص أخرى فلو أخلصوا للفكرة وكفوا عن إعادة تجارب ثبت فشلها عملياً سيخرجون بتجربة مثالية ستنتقل للعالم أجمع . وهذة التجربة هي التي ستفكك مفاصل العلمانية وتصهرها لأن العلمانية هلامية وبلا روح وبلا مرجعية ثابتة وليس فيها ما يمنع تحول العالم لغابة من العراة أو الشواذ وليس فيها ما يمنع تناكح ذوي المحارم أو أي فكرة تعافها النفوس السليمة إذا صوتت الأغلبية لها. أما الإسلام فهو دين الفطرة الذي لم تنتهِ معجزاته ولم تستنفذ غاياته وستحدث المعجزة التي حدثت للمغول من قبل عندما هزموا المسلمين ثم هزمهم الإسلام .. انتهى . [email protected]