من المواقف الطفولية الساذجة ، أن يعايرنا البعض بأن ما نستهلكه في بلداننا هو من صناعة الغرب الذي لا نحبه ! والحال أن علاقتنا بالغرب ليست علاقة "مراهقة" كما يحلو للسطحيين اختزالها في علاقة "حب وكراهية" وكأننا بصدد النظر في اقامة علاقة نسب ب"زواج" أو قطعها ب"طلاق" ! ويطالبنا في الوقت ذاته أن نقبل بأن يمتطينا الغرب كالبهائم ونحمله ومعه ما لذ وطاب من النفط العربي إلى عواصمه ومصانعه ، طالما نستهلك ما ينتجه من تكنولوجيا وغيرها ! من قبيل أنه كاسر عيوننا فعلام "التنطيط" عليه ! وعندما وصفت أصحاب هذا الرأي ب"السطحيين" وذلك إذا افترضنا حسن نيتهم فلم أكن أقصد إهانتهم ، وإنما استهدفت توصيف قدر وعيهم الضحل بهذه العلاقة التي أعرف أنها كثيرا ما تلتبس على الناس . التكنولوجيا تختلف عن الثقافة والحضارة والهوية ، فهي أي التكنولوجيا "محايدة" شارك في انتاجها الهندي والعربي والباكستاني والياباني والأوروبي والأمريكي والكوري وغير ذلك ، فما ينتج في أوروبا أو في أمريكا ، ليس انتاجا أوروبيا أو أمريكيا خالصا ، بل شارك فيه علماء وباحثون من جنسيات مختلفة ، والأستاذ ناجي عباس كتب هنا في "المصريون" منذ يومين مقالا عن المهندس المصري الذي كرمته ألمانيا ومنحته أعلى أوسمتها الوطنية ، لأنه تفوق على كل العاملين الغربيين في حل مشاكل معمارية كبيرة استعصت على كل ذوي العيون الزرقاء والشعر الأشقر ممن بلغوا من العلم مبلغ المرجعيات الكبيرة . وإذا كان ثمة من يسأل لماذا هم "فلحوا" ونحن لازلنا محلك سر ؟! فالاجابة علي السؤال لا تخفى حتى على التلميذ الذي يدرس التاريخ في المدارس الابتدائية ، فضلا عن أن أهم سبب في التخلف العربي ، هو مساندة الغرب للديكتاتوريات الفاسدة واللصوصية الرسمية في العالم العربي ، والمعروف أن تلك الأخيرة ، تعتمد على الفساد والجهل والقمع لتأمين استمرارها على كراسيها ، فما ينفق على الأجهزة الأمنية وعلى استيراد أدوات وأجهزة التعذيب في بلداننا يفوق بمراحل كبيرة ، ما ينفق على التعليم والصحة ! الغرب يتفوق تكنولوجيا هذا صحيح ولكن مع وعينا كما بينت فيما تقدم بأن التكنولوجيا "انتاج محايد" ، الفرق بيننا وبينهم في "التنظيم والإدارة" التي ترتبط بطهارة السلطة والنظام السياسي وشفافيته ، ولذا فإن موقفنا من الغرب هو موقف تحرري ، ويستهدف التحرر من وكلائه السياسيين الذين يحكموننا بالوكالة عنه ، وأسند إليهم مهمة تجهيل شعوبهم لتظل سوقا لمنتجاته ، ومصدرا للطاقة الرخيصة لمصانعه ، وقمعها وسحلها وذبحها وقطع ألسنتها ، حتى لا تطالب بأن تعامل كالبني آدمين ، وهو الطلب الأول في رحلة التحرير الطويلة والشاقة. الغرب لم يتفوق علينا حضاريا ، وهذه حقيقة يحاول أن يخفيها بكثير من الشوشرة والضجيج والجعجعة ، فهو الذي قتل أكثر من 50 مليون إنسان في حربين عالميتين ، لم يكن المسلمون طرفا فيها بالمرة ، وهو الذي ألقى القنابل النووية على المدنيين في ناجازاكي وهيروشيما اليابانيتين . اليابانيون اعتذروا عن هجوم "بيرل هاربر" رغم أنه كان هجوما على هدف عسكري أمريكي ، والأمريكون لم يعتذروا حتى الآن عن قتل المدنيين اليابانيين بالقنابل الذرية ! الأمريكون أرغموا "وكيلهم" في طرابلس على أن يدفع 20 مليون دولار لكل ضحية من ضحايا لوكيربي ، فيما دفع الأمريكيون 200 دولا فقط لاغير ، على كل"رأس" قطعوها من أطفال ونساء وشيوخ قبيلة أفغانية فقيرة وبائسة ، ذبحتهم الطائرات الأمريكة بهدوء وبدم بارد وكأنها نعاج لا صاحب لها ! الغربيون هم من قرروا حرق "جاليلو" .. وكنيستهم ودينهم هو ما اخترع محاكم التفتيش التي قتلت وأحرقت 300 ألف بروستنتي وأكثر من 100 ألف ارثوذكسي ، وتهجير نحو 300 ألف يهودي و3 مليون مسلم من أسبانيا . والقائمة طويلة ويضيق المقال لذكرها ، ولكن يبدو أن الغرب نسي نفسه وهمجيته ووحشيته ، وشرع في المنظرة علينا هو واتباعه وخدمه في العالم العربي ، فيما هو في واقع الحال "شيطان" حقيقي وإن اتشح بوشاح ملائكي [email protected]