أعلنت وزارة الداخلية أمس أنها قامت بتصفية اثنين من قيادات حركة "حمس" الإرهابية في بعض ضواحي القاهرة ، ونسب البيان إلى هذين الشخصين عدة اتهامات بأنهم خططوا لعمليات كذا وكذا ، وتورطوا في جرائم كذا وكذا ، وبدا البيان الرسمي مطولا ، في إشارة إلى حاجة المؤسسة الأمنية لتبرير تصفية اثنين من المواطنين بدلا من تقديمهم إلى العدالة ، خاصة وأنه يفترض أن القوات تمتلك بدائل عديدة للسيطرة وشل الأعصاب وقدرات الإرهابيين أو بعضهم على الأقل ، كما أن مصلحة أي تحقيق أن يتم توقيف بعضهم أحياء لتمحيص الشهادة وتتبع خيوط بقية الخلية الإرهابية . تصفية الاثنين أمس سبقه تصفية خمسة آخرين في الإسماعيلية عقب العملية الإرهابية في البدرشين ، وسبقه تصفية حوالي خمسة عشر شخصا آخرين في قنا ، ووقائع أخرى مشابهة تمت فيها تصفية الجميع ، ولم يذكر البيان أنه تم القبض على شخص واحد حيا أو مصاب ، الجميع ماتوا ، كما لا يذكر البيان أية إصابات في جانب رجال الأمن ، وهي أمور طرحت علامات استفهام على تكرار هذه الوقائع بتلك الصيغة المتطابقة ، بل إن صفحات التواصل الاجتماعي شهدت توقعات صريحة وواسعة بعد جريمة البدرشين الإرهابية بأننا سنسمع غدا أو بعد غد عن تصفية عدد من الإرهابيين ، وهو ما حدث بالفعل ، وبطبيعة الحال ليس من الضروري الارتباط بين الحادثين ، ولكن الشاهد أن الأمور وتكرارها على هذا النحو أصبح يجد شكوكا متزايدة في أوساط الرأي العام ، ولم يعد أحد يسلم تلقائيا ببيان الداخلية . المشكلة هنا أن هناك أحداثا سابقة ثبت فيها بوجه القطع الخطأ في تقدير الداخلية ، وأن من تمت تصفيتهم باعتبارهم مجرمين متورطين في عملية إرهابية أو إجرامية ثبت أنهم أبرياء ولا صلة لهم بالجرائم المنسوبة إليهم ، وشهيرة هي قصة الخمسة مواطنين الذين تمت تصفيتهم في القاهرة الجديدة بدعوى ارتباطهم بجريمة خطف وقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني ، وضبط وثائقه وبعض متعلقاته في بيوتهم ، ونشر تلك الصور في وسائل الإعلام الرسمية ، وقد ثبت بتحقيقات أشرف عليها النائب العام شخصيا لحساسيتها أن كلام الداخلية غير صحيح ، وأن بيانات الداخلية ليست مطابقة للحقيقة ، وأن الخمسة الذين تمت تصفيتهم لا صلة لهم بموضوع ريجيني وبالتالي قتلوا خطأ ، ومع الأسف ، حتى الآن لا نعرف ما تم في ملف هؤلاء المواطنين الخمسة ومن يعيد لأهاليهم حقوقهم ويعوضهم عن الدم الذي أهدر ظلما والأطفال الذين يتموا والأسر التي دمرت . الجهاز الأمني يعمل تحت ضغط الوقت والمسئولية ، وهذا أمر ينبغي أن نقدره ونتفهمه ، كما أن المشكلة أن القيادة السياسية والإعلام يحمل الجهاز الأمني وحده كامل المسئولية عن انتشار الإرهاب وعن وقفه كذلك ، وهو أمر غير صحيح وغير عادل ، فالمسئولية سياسية بالمقام الأول ، والجهاز الأمني يدفع ثمن قرارات سياسية خاطئة تعقد الأوضاع في البلاد وتفجر الغضب وتوسع الانقسام الوطني ، والجهاز الأمني مطالب بأن يؤكد نجاحه وسيطرته وقدراته ، والوقت يضغط والإعلام يضغط وتوالي الأعمال الإجرامية الإرهابية يضغط ، وهو ما قد يتسبب في الأخطاء وسوء التقدير وربما العصبية الشديدة في ردات الفعل الأمنية . يتحمل الإعلام والقيادة السياسية مسئولية أخلاقية في المقام الأول عندما تحدثوا عن مواجهة الإرهاب ومؤيديه بمصطلح "الثأر" ، وتكررت هذه الكلمة ، على لسان إعلاميين كبار موالين للسلطة وعلى لسان قيادات سياسية رفيعة ، والثأر تعبير عن نوازع الأحقاد الجاهلة فيما قبل القانون وما قبل الدولة ، وفي صعيد مصر ينتشر الثأر حيث ينتشر الجهل ، يقتل من تلك العائلة شخص فتختار العائلة الأخرى شخصا أو اثنين أو أكثر من خيرة العائلة الأخرى ، وليس المتهم بالقتل نفسه ، لكي تنفذ فيه حكم الإعدام ، والدول لا تفعل ذلك ، الدولة بما هي دولة هي منظومة للقانون والعدالة والمؤسسية ، ولا مجال للثأر هنا ، لفظا ومعنى ، وإلا انهار كل شيء ، وأصبحنا في غابة يتبادل فيها المسلحون التصفيات مع المعسكر المضاد ، وتنهار ثقة المواطن والمجتمع الدولي كله في البلد ووجود القانون فيه ، ولا يعود يتعامل مع "دولة" وإنما مع كيان هش وخطر . لا أحد يملك إصدار الأحكام على الأشخاص وتحقيق تلك الاتهامات ونسبة جرائم إليهم وإدانتهم بها ومعاقبتهم عليها إلا القضاء وحده ، وكل كلام قبل ذلك من أي جهة أمنية أو غير أمنية هو مجرد "اشتباه" خاضع للصحة والخطأ ، الحقيقة والوهم ، والدولة ومؤسساتها وأجهزتها مسئولة عن دماء مواطنيها ، وعن سيادة القانون ، وعن مرجعية القضاء ، وعن تأكيد فكرة "الدولة" ، قبل أن يجتاحنا طوفان الفوضى والهلاك الذي اجتاح دولا أخرى قريبة أو شقيقة . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1