قال لى صديقى: كان بحثى الأخير، يحمل نتائج مُبشِّرة وواعدة؛ غير أنى لم أستطع أن أُكمل فيه للنهاية. قلت له: لِماذا يا صديقى؟ ليس من السهولة على النفس أن تقطع هذا الشوط الطويل ثم يذهب كل ذلك هدرًا.. قال فى أسى: الجزء الأخير كان يتضمن تحليلًا ضروريًّا على جهاز لا يوجد فى مصر، وقد فكّرتُ فى إرسال العينات للتحليل بالخارج فاصطدمت بفداحة المبلغ المطلوب، والذى لا يكفيه مرتبى فى الجامعة لخمس سنين. طويتُ قلبى كمدًا على هذه القصة وعلى مئات القصص أمثالها، ثمَّ أَهاجها فى صدرى قانون مرتبات العاملين بالشرطة والذى يحصل أمين الشرطة بمقتضاه على ضعف ما يحصل عليه أستاذ ورئيس قسم أفنى زهرة عمره فى التعليم والبحث بين الكتب وأنابيب الاختبار. القانون الذى يحصل بمقتضاه الخفير على أكثر مما يتحصَّل عليه المعيد. كان هذا مُستساغًا فى عهد الدولة ذات المفهوم الأمنى، والذى لا صوت فيها يعلو على صوت (طرقعة) يد الشُّرطى على (قفا المواطن)، ولكن العجيب أن يستمر ذلك بعد ما يقرب من عام ونصف على قيام ما يُفترضُ أنَّه ثورة. والعجيب ألا يتنبَّه مجلس الشعب الموقر لهذه المفارقة، وبه عشرات النوَّاب من أساتذة الجامعة، وعلى رأسهم رئيسهم الأستاذ الدكتور المحترم! ولكى أزيدك أسى تأمَّلْ معى هذه الأرقام: لو قام المعيد – فى بداية تعيينه – بتوفير نصف مرتبه وتدبير أمره بالنصف المتبقى، فإنه يستطيع شراء جهاز (لاب توب) جيد الإمكانيات بعد عامين كاملين! مع العلم طبعًا أن هذا الجهاز يمثل ضرورة لمن هو فى مثل وضعه ووظيفته التدريسية والبحثية. ولاحظ أنى لا أتكلم عن سيارة، ولا عن شقة وعروسة. تتطلب عامة التحليلات التقليدية فى كثير من الأبحاث العملية أجهزة مُعيَّنة يتوفر ما يتوفر منها فى المعامل المركزية ومراكز البحوث، ويبلغ تكلفة تحليل العينة الواحدة فى بعض التحليلات أكثر من ثلاثمائة جنيه. ولو افترضنا أنَّ متوسط التكلفة للعينة الواحدة مائة جنيه (بعد حصوله على نسبة تخفيض) وأنَّ عدد العينات المطلوب تحليلها خمسون عينة؛ يكون الباحث مُطالبًا بدفع مبلغ خمسة آلاف جنيه من جيبه الشخصى، وهو ما يوازى مرتبه كاملًا لمدة خمسة أشهر تقريبًا! هذا فى تحليل واحدٍ، فى بحث واحد، ولك أن تتخيل المبلغ المطلوب فى رسالة ماجستير أو دكتوراه بها ما قد يصل فى بعض الأحيان لثلاثة آلاف تحليل! تصل أسعار الكتب التى لا توفرها قواعد البيانات المجانية ولا المكتبات الرقمية؛ إلى ما قد يزيد على ثلاثة آلاف دولار للمرجع الواحد، وغالبًا ما تكون هذه المراجع مطلوبة ولا غنى عنها للباحثين فى بعض التخصصات. والأمثلة المذكورة غيضٌ من فيضٍ، وهى على سبيل الإشارة والتمثيل، لا على سبيل الحصر، فكيف فى ظل هذه الظروف يتكلمون عن الارتقاء بالبحث العلمى والتعليم الجامعى؟ إنَّ المساواة فى الظلم تبدو لى فى موقفنا هذا مخرجًا مناسبًا للجميع، فأنا لا أطالب برفع مرتبات أعضاء هيئة التدريس لتتساوى مع أعضاء هيئة الشرطة، لا أطالبكم برفع الأستاذ الجامعى إلى مستوى أمين الشرطة، ولكنى أناشدكم أن تهبطوا بمستوى أمين الشرطة ليتساوى مع الأستاذ الجامعى، فإنَّ الفقر قد يُقدر عليه، ولكنَّ المهانة والإحساس بالظلم لا يقبله الشرفاء.