لم يكن غريبا أن تصاب ثورات الربيع العربي بهذه النتائج الكارثية التي جعلت الكثيرين يتمنون العودة إلى مرحلة ما قبل قيام تلك الثورات . ولم يكن هذا بفعل ما يسمى بالدولة العميقة بقدر ما كان بسبب الخلاف الأيدلوجي و الاستقطاب الحاد الذي نشأ حول هوية الدولة الجديدة التي كان ينتظرها الثوار! و لا نبالغ إذا قلنا : إن الإسلاميين كانوا أحد العوامل المهمة التي أدت إلى فشل ثورات الربيع العربي ، فقد كان الإسلاميون يروجون لمشروع ( خرافي) يسمى المشروع الإسلامي ، وما هو بإسلامي ! وقد كان المنظرون الإسلاميون – ولا يزالون حتى الوضع الراهن – يعيشون في غيبوبة معرفية وحضارية تعيش خارج الواقع وخارج الزمن . وقد اتضح من خلال خطابهم التقليدي و العاطفي أنهم لا يفهمون الإسلام الحضاري الذي طالما تغنوا بأناشيده الحماسية وبشروا شعوبهم به .. ولا يعرفون شيئا عن المرجعية الإسلامية التي كانوا يشهرون فوهتها تجاه كل من يردد أية مقولة مخالفة . لقد أصبنا إذن بخيبة أمل كبيرة في هؤلاء القوم الذين راهنت عليهم الجموع الغفيرة .. لكن لم يكن لائقا بتلك الجموع أن تتخلى عن الإسلاميين في منتصف الطريق ، وخصوصا أن البدائل التي كانت متاحة وقتئذ انحصرت وانحسرت بين( البحر الذي وراءهم والعدو الذي أمامهم ).. ولم يكن ثمة مناص إذن من المضي في ذلك الطريق الذي لم يكن مبشرا بسبب الأداء المحبط والخطاب المتخبط لدى الإسلاميين .لقد انحرفت الثورة عن مسارها الصحيح .. وبعد أن كانت تحتمي بالمطالب العادلة من عيش وحرية .. أصبحت تحتمي في اللحية و النقاب ، و في تشويه كل من لا يحمل ذات التوجه الإسلامي . وقد كان لمصطلح "العلمانية" النصيب الأكبر في الهجوم و النقد و التشويه من قبل المشايخ و المنظرين الإسلاميين حتى صارت كلمة سيئة السمعة تصم صاحبها بالكفر و الضلال و الخروج عن ملة الإسلام ،فهل العلمانية كذلك؟ و ماذا يعني ذلك المصطلح المعقد و الشائك ، والذي لا يوجد اتفاق حول معناه و لا ملامحه ؟، و كيف نشأت تلك العلمانية وما العوامل التي أدت إلى ظهورها ؟لقد حاول المفكر الراحل "دكتور المسيري" في كتبه عن العلمانية ، وخصوصا كتاب "العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة " أن يحلل هذا المصطلح لغة وتركيبا وبنية ، و أن يبحث في الخلفيات المعرفية والفلسفية التي أدت إلى ظهوره . وعلى الرغم من اتفاقنا معه في أن كثيرا من الذين تناولوه ، قد تعاملوا معه بنوع من التبسيط و الاختزال ، و أن المصطلح أكثر تعقيدا مما يظن الكثيرون ، فإننا نختلف معه في نقطتين جوهريتين ، الأولى : أن "المسيري" رحمه الله استسلم للمنهج الغربي في رد كل منجزاته الحضارية و المعرفية والثقافية إلى أصول وجذور يونانية و مسيحية .. كعادة الغرب في إنكار أي فضل أو تأثير للحضارة الإسلامية على بنيته المعرفية ، و هو الأمر الذي أثبتت كثير من الدراسات الحديثة وبعض الكتابات القديمة .. أثبتت عدم موضوعيته بالأدلة و البراهين التاريخية و العلمية ، كما أن هناك سببا آخر غاية في الوضوح .. وهو إذا كانت جذور النهضة و الحداثة الغربية يونانية و مسيحية ، فلماذا لم تحدث تلك النهضة إذن إلا بعد العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ؟ لقد كانت الفلسفة اليونانية و التعاليم المسيحية هي المهيمنة على العقل الغربي لعدة قرون ، و مع ذلك ظل هذا الغرب قابعا في عصور ظلامه حتى حدث الاحتكاك مع العالم الإسلامي و الثقافة الإسلامية ، فأصيب (الغرب) بصدمة حضارية و ثقافية كبرى غيرت تاريخه بطريقة دراماتيكية . لقد أثبتت الدراسات الحديثة أن "جون لوك" أحد رواد التنوير الغربي والعلمانية الغربية تأثر لدرجة السرقة برواية " حي ابن يقظان" "لابن طفيل" ، ومن هذا الدراسات دراسة الباحثة البريطانية Gul .A.Russell ، و الباحثة الأمريكية Denise Spellberg في كتابها عن الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدةالأمريكية و مدى تأثره بالإسلام و القرآن . و هناك عشرات الدراسات الأخرى الحديثة التي تثبت أن تأثير الحضارة الإسلامية على الغرب و العالم .. لم يكن فقط فيما يتعلق بعلوم الطب و الفلك و الرياضيات وغير ذلك من العلوم الطبيعية .. بل إن التأثير الأكبر كان تأثيرا ثقافيا و أخلاقيا .. و أن قيم الحرية و الإخاء و المساواة هي قيم إسلامية لا غربية .بل إن "مارتن لوثر" رائد حركة الإصلاح الديني كان متأثرا بالثقافة الإسلامية رغم هجومه على الإسلام و القرآن . وقد عزا البعض رفض العالم الكبير"إسحاق نيوتن" للعقائد التقليدية و انتماءه إلى طائفة الموحدين Unitarians إلى تأثره بالأفكار والمعتقدات الإسلامية . لقد كانت العلمانية الغربية (في بدايتها) منتجا إسلاميا خالصا يقوم على قيم التسامح و الحرية و العدل و الإخاء و المساواة ورفض الكهنوت. لكنها تطورت (نتيجة للطبيعة الغربية المتحررة )من القيود الأخلاقية على مر الزمن . لذلك نرى أن "المسيري" رحمه الله لم يكن موفقا في الاستسلام للنزعة الغربية في إرجاع العلمانية إلى جذور يونانية ومسيحية و غربية خالصة .. و هو الأمر الذي تنفيه الدراسات الحديثة . النقطة الثانية التي نختلف فيها مع المسيري رحمه الله .. هي إفراطه في توصيف العلمانية الشاملة حتى جعل من ارتداء (تي شيرت الكوكاكولا) نوعا من العلمانية .. حتى جعل الشعوب الإسلامية علمانية بهذا المفهوم .. وهذا ليس صحيحا .. لأن الشعوب الإسلامية لديها رؤية للوجود و الكون والحياة تختلف عن الرؤية الغربية .. فهي تنطلق من الرؤية القرآنية عن الخالق والحياة والقيامة .فالعبرة ليست بممارسة تلك الشكليات ، ولكن بالاعتقاد تمارس من خلاله، حتى وإن ارتكبت الزنا وشربت الخمر .. فهي تفعل ذلك وهي تؤمن أن ذلك أمر مخالف للمفهوم الإسلامي و الرؤية الإسلامية .. وهو جوهر الخلاف بين العلمانية الغربية و الإسلام . و في النهاية ألتمس من الإسلاميين أن يكونوا أكثر واقعية و أن يمارسوا قليلا من النقد الذاتي .. ربما يدركون أنهم جزء كبير من أزمة هذه الأمة المنكوبة .