كانت الأسابيع الماضية عصيبة على الحالة المصرية وثورتها، ربما كانت محاولة سافرة لإجهاض الثورة من المحاولات المتكررة، وربما كانت مخاضًا حقيقيًا تتضح فيه الرؤية وتترتب معه الأشياء ويرى حتى من به عمى، ويسمع من بأذنه صمم، حجم التواطؤ والمؤامرة على الثورة، خاصة من رأس الحربة فى الثورة المضادة. كانت الأسابيع الماضية ذروة الصدام بين إرادة شعبية عارمة مصممة على استكمال استحقاقات الثورة ومتطلباتها، وثورة مضادة تحاول تفجير الأوضاع من كل حدب وصوب، وما سيل الحرائق المستمرة فى أرجاء البلاد إلا أحد كروت اللعبة (وياما فى الجراب يا حاوى)، لكن يبدو أن الحاوى أوشك على الإفلاس وأوشك جرابه أن ينفد، وعلى رأى محمد صبحى فى مسرحيته الشهيرة "لعبنا كل الألعاب"، من أول أحداث شارع محمد محمود وماسبيرو وشارع مجلس الوزراء وقبلها أحداث مسرح البالون وبعدها أحداث مذابح استاد بورسعيد، والغريب أن كل المتهمين فى كل تلك الجرائم يحاكمون مدنيًا والثوار فقط هم من يحاكمون عسكريًا. ولعل ذلك ما يجعلنا نشك أن جراب الحاوى العسكرى أوشك على النفاد. الأمر خطير والدرس أصبح مفهومًا ومعروفًا، كلما قاربت المواعيد والاستحقاقات كلما زاد التفجير، علاقة طردية إيجابية بلغة الفرضيات الدراسية للرسائل الأكاديمية الجامعية. فمسار العنف كله على مدار ما يقرب من عام ونصف العام مرتبط باستحقاق، ثم يفجعنا التفجير قبل الاستحقاق، وسقوط الضحايا أصبح ثمنًا معروفًا، فى محاولة لتنديم المصريين على الثورة بل وتأديبهم عليها. لا يريد أن يفهم كثير من قادة المجلس العسكرى أن المصريين شبوا على الطوق وأصبح وعيهم مخيفًا للطغاة والجبابرة وأصبحت عزيمتهم وإرادتهم فولاذية، يعرف من يخرج للتظاهر وللاعتصام أنه قد يستشهد، (ما عاد فى الأمر سر)، وهو يرحب بالشهادة فاتحًا لها صدره مرحبًا بها ثمنًا لحرية وطنه وانتزاعها من براثن نظام استبدادى إفسادى أشد تدميرًا لمقدرات الوطن من الاحتلال الأجنبى. ليست استهانة بالموت، ولا رغبة فى إلقاء النفس فى التهلكة، ولا تمنى لقاء العدو إنما رغبة عارمة فى الحرية، ما عادت الناس ترى ثمن الحرية باهظًا ولا مكلفًا، وهكذا الأحرار يسترخصون الغالى والنفيس فى سبيل حريتهم. ارتفاع وعى الشعب المصرى المذهل وحدّة إرادته وتصميمه على انتزاع حقوقه علامة فارقة فى مسيرة هذا الشعب من بعد ثورة يناير التى ما زال يتعامى عنها البعض وينكر حقيقة وجودها. ولقد زاد حدة إرادة الشعب، فشل المجلس العسكرى فى إدارة المرحلة الانتقالية وجعلها أكثر عنادًا وتجبرًا وغطرسة وعدم اعترافه بأخطائه بل وجرائمه وإلقائها على ما يسمى الطرف الثالث الذى بتنا كلنا نعرفه كما نعرف أنفسنا وأبناءنا. لم يعد يشغلنى مما فات، فما فات فات، والحوادث تترى ولقد تكسرت النصال على النصال، يا لصبر الشعب المصرى الذى يُطمع الطغاة. إنما الخوف مما هو آت، ومما هو يدبر بليل ومما يكاد من مكر الليل والنهار. وهناك خوف من استحقاقات ما بعد الرئاسة، فلو جاء رئيس مستقل ولاؤه للشعب، وليس لمن قد يترتب له عملية انتخابية تأتى به والبركة فى المادة ذات التحصينات الإلهية للجنة العليا للانتخابات. الأمر خطير والله لطيف بعباده، إنما على العبد بلوغ الوسائل وتحرى الأسباب والدفع بين الحق والباطل من سنن الكون، لولاه لفسدت الأرض وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد وضاعت حقوق شعوب وسرقت ثورات نقية بيضاء وتلاعب بالشعب الطغاة والمستبدون من ورثة فرعون وهامان وجنودهما. الأمر خطير، والصراع قد بلغ أشده، وليس لها من دون الله كاشفة. ملحوظة أخيرة: الجيش ليس حاميًا للشرعية الدستورية، الجيش مؤسسة من مؤسسات الدولة، ليس له أى وضع متميز فى هرم الدولة ولا صلاحيات سيادية، إنما الشعب هو واضع الدستور وحاميه وحامى شرعيته. كلمة أخيرة: أحداث العباسية هى آخر مسمار فى نعش شرعية المجلس العسكرى.