تُمْتَهَن الحقيقة فى زمن لم تعد فيه غير قِلّةٍ من الكُتَّاب تحترم الحقيقة وتحترم القُرّاء، بينما انْجرفتْ الكثرة الغالبة مع أهوائها فى ترويج الأباطيل، وتضليل الناس. يتفاوت أفرادها فى قدراتهم على التدليس والعبث بالعقول.. إنهم أذكى من أن يتورطوا فى أكذوبة فاقعة، أو إشاعة غليظة، مثل "مضاجعة الوداع".. فتلك بضاعة فاسدة تروّج لها الحثالة، أما النخبة فلهم أساليب أكثر نعومة وأشد خفاءً.. والذى يهمّنى هو الكشف عن هذه الأساليب. فى هذا المقال [أُتابع] تحليل عيّنة من مقالات كاتب، هو مجرد نموذج لفئة من الكُتّاب نصبوا من أنفسهم شهود زور على كل ما أنتجته المسيرة الديمقراطية، منذ أن انحازت أغلبية الشعب للإسلاميين، ووضعت الفئات الأخرى فى حجمها الحقيقى.. ومن ثَمَّ أصبح أكبر همهم إثبات خطأ الشعب فى اختياراته، وتيْئيسه من المستقبل مع الإسلاميين.. وقد أوضحتُ فى مقال سابق سبب اختيارى لهذا الكاتب بالذات.. وأضيف: أننى ليس بينى وبينه خصومة شخصية، فأنا لم أعرفه إلا مؤخّرًا فقط، من خلال كتاباته.. وقد تبيّن لى منه إصرار عجيب، على أفكار لا منطق فيها ولا احترام للحقائق.. لقد اتخذ موضوعًا محوريًّا يدور حوله: هو شيطنة الإسلاميين، وعلى الأخص جماعة الإخوان المسلمين وحزبهم. ولو كان كلامه عنهم نقدًا موضوعيًّا خاليًا من الافتراءات، لما أثار دهشتى، فقد سبق لى أن انتقدتهم فى مقالات منها: "نظرات نقدية فى الخطاب السياسى لبعض الإسلاميين" كما أننى على يقين أن هؤلاء ليسوا ملائكة ولا معصومين من الأخطاء، ولكنهم بالتأكيد ليسوا شياطين، بل ربما من أشرف الناس وأكثرهم نقاءً ووطنيةً، واستعدادًا للتضحية، فى سبيل مبدأ نبيل.. وفى واحدة من مقالاته يَقْرِنُ بين شخصيتين من المرشحين للرئاسة هما عمر سليمان وخيرت الشاطر، ويقرن بين حزبين: الحزب الوطنى وحزب الإخوان، وسترى فى كلامه عَجَبَ العُجاب.. إنه يقول: "اثنان من [صُنّاع الاستبداد] يتنافسان، كلاهما يسعى لإنتاج ذات النظام بذات الآليات وأنماط الانحياز: الجنرال يحاول العودة لنظام مبارك كما هو، بينما [رجل الأعمال المتشيّخ] يحاول إعادة إنتاج النظام ذاته بروح مبارك ذاتها وبانحيازات مبارك ذاتها... لكن فى مظهر مختلف يرتدى عباءة الدين". هو إذنْ لا يرى أى اختلاف بين الرجلين، فكلاهما من صُنّاع الاستبداد، وكلاهما يريد إعادة إنتاج نفس النظام، ودليله مُتَضمّنٌ فى عبارته: "خاصةً بعد أن ثَبَتَ أن الجماعة هى أقدر اللاعبين على التعامل مع نظام مبارك والتكيّف معه والاندماج فيه، وكذلك نظام مبارك، لا يجد من يقدّم المصالح على الأخلاق [غير الإخوان] ليعود عبْرهم من جديد"..! لن أناقش الآن كلمة [ثَبَتَ] فى مدى تعبيرها عن الواقع، ويكفى أن أقول إنها من أدوات التضليل التى يجيدها صاحبنا، ولكنى أَسْأَلهُ: على أى أساس تقرن بين شخصٍ مشهورٍ بتاريخه الأسود، معروفٍ بالفساد والاستبداد والعِمالة للأجنبى، بشخص آخر صفحته – من هذه الناحية- بيضاء تمامًا..؟ وغير معروف عنه أنه تعرّض لظلمٍ بيّنٍ من النظام الجائر..؟! وبصرف النظر عن كونه يصلح أو لا يصلح للرئاسة فهذه قضية أخرى لا تعنينى، ولكنى أسأل: كيف سوّلَتَ لك نفسك أن تقرن بين الجلّاد وبين الضحية..؟! لا أتوقّع إجابة، ومن ثَمَّ انتقل لعرض التكتيك الذى يستخدمه الكاتب: إنه يقَدِّمُ شخصية مكروهة من الناس، يصنع منها قالَبًا يصبُّ فيه أو يقرن به شخصية أخرى [يُقَدِّرُ] أنها غير معروفة لكثير من القراء، فيختلق لها هو وجه شبه مع الشخصية المكروهة، وبذلك يتم حرْقها... وهذا هو سر القوّة الخفيّة فى القَوْلَبَةِ كما عرفناه عند كبار المُدَلِّسين.. ونبّهنا إليه فى كتب ومقالات.. إنه ليس قوة المنطق ولكن قوة الكذب المحبوك.. أليس هذا هو "التكتيك" نفسه الذى اتّبعه فى ِقَوْلَبَةِ جماعة الإخوان وحزبها مع الحزب الوطنى؛ باختلاق فكرة الاستحواذ كعامل مشترك..؟ متجاهلاً فى ذلك كل الحقائق الموضوعية التى تفرّق بين عهدين وبيئتين وعقيدتين، بينهما منتهى الاختلاف.. مِنْ هذا: أن الحزب الوطنى كان يحصل على أغلبية مزيفة عن طريق عمليات تزوير مروّعة للانتخابات يعرفها الجميع، وكانت تسانده سلطة بوليسية قمعية، لا شرعية لها إلا القوة الغاشمة؛ سلطة لم تتورّع عن ارتكاب أبشع الجرائم ضد معارضيها.. لكن ثورة الجماهير نسفت قواعد النظام الفاسد، وقضت على صورة الشعب المقهور اليائس المستسلم، وخلقت صورة جديدة للشعب الثائر المتحفّز، هذا الشعب هو الذى جاء بالإسلاميين إلى البرلمان، بمحض إرادته وحريته، عبر انتخابات نظيفة.. ويعلم الإسلاميون أنهم إذا انحرفوا عن خدمته فلن يمنحهم ثقته مرة ثانية.. أَمَا زلت - بعد كل هذا- لا ترى أنه لا وجه للمقارنة على الإطلاق بين الرجلين أوالحزبين أوالعهدين...؟! الحقيقة عند صاحبنا هلامية مثل عجينة الصلصال فى قابليتها للتشكيل إلى ما لا نهاية؛ فقطعة الصلصال فى يد الطفل؛ يصنع منها حصانًا يلهو به بعض الوقت، ثم فجأة يحوّلها إلى طائرة، ثم يسرح به خياله فيصنع منها قطّةً أو كلبًا.. إنها مادة طيعة قابلة للتشكّل وفق شاطحات الخيال.. وكذلك الحقيقة، عند صاحبنا، تخضع للهوى والمزاج؛ فقد سخر من خيرت الشاطر ونسب إليه كل العبر عندما رشَّحه الإخوان للرئاسة: جرّده من كل ميزة حتى مؤهلاته العلمية.. واستخف به؛ فهو عنده مجرد تاجر أثاث، أو (رجل الأعمال المتشيّخ..) و"ليس قيادة سياسية واقتصادية مرموقة.. وليس شخصية عامة لها إسهاماتها المجتمعية، فهو فقط بمثابة نائب لرئيس جماعة دعوية...". ثم أنظر إليه عندما رشح الإخوان محمد مرسى بدلاً منه، وأراد صاحبنا تشويهه والحط من قيمته، فماذا يفعل..؟ إنه يأتى بخيرت الشاطر لينزع عنه الصورة البائسة التى خلعها هو عليه من قبلُ، ويصوغه فى صورة لامعة ليسقط القادم الجديد فى المقارنة، ويقول: "خيرت الشاطر... يتمتع بشعبية هائلة داخل الجماعة، كما أن له كاريزما تميزه عن المرشح الحالى..." وبعد أن جرّد صورة محمد مرسى من الشعبية والكاريزما ومنحهما للشاطر.. يأخذ هذه الصورة- فى قفزة بهلوانية- ليقارنه بعبد المنعم أبو الفتوح.. فيقول:"إن الجزء الأعظم من شباب الإخوان وقواعد الجماعة بالمحافظات تميل إلى دعم د. عبد المنعم أبو الفتوح". من أجل (أبو الفتوح) فأحرق صورة محمد مرسى، متلاعبًا بصورة خيرت الشاطر مرتين، ليصنع فى النهاية صورة مشرفة ل (أبو الفتوح). وهكذا تتشكل الحقيقة عند صاحبنا فى صور زِئْبَقِيِّةٍ دائمة التّحوُّل.. لتخدم غايته القُصْوَى؛ وهى وضع السُّخام على وجه الإخوان المسلمين، فى إطار دعاية مكشوفة ل (أبو الفتوح) تسىء إليه ولا تفيده؛ فالقاعدة أنه إذا امتدحك اليوم شاعرٌ كذّاب فلا تأمن له أن يهجوك غدًا.. ويبقى سؤال أخير: من أدرك يا صاحبى أن الشباب وقواعد الجماعة فى المحافظات يدعمون أبو الفتوح دون مرسى..؟! هل أجريت دراسةً مَسْحِيَّةً أو استبيانًا كما يفعل الباحثون عن الحقيقة بطرق علمية ولا يقفزون إلى الأحكام قبل أن يتثبَّتوا..؟! أم أنه الهوى عندما يتحكم..؟! [email protected]