(الصحراويون) ، هكذا يلخص " إبراهيم عيسى " _ في كلمة واحدة _ انطباعه العام عن المسلمين / الغزاة ، الذين اقتحموا مصر ، و أوسعوها ظلما ً _ فيما يرى _ فأعملوا في أهلها القتل و الظلم و القمع المنهجي المنظم ! في نحو من سبعمائة صفحة ، كتب لنا إبراهيم عيسى روايته الجديدة ، بعنوان " رحلة الدم / القتلة الأوائل " ( الكرمة للنشر / 2016 ) ، حيث تعرض عبر صفحات الكتاب لفترة الفتح الإسلامي لمصر ، بدءا ً من عام 21 من الهجرة فصاعدا ً . و حشا ( عيسى ) كتابه الضخم بكل ألوان التشهير ضد المسلمين _ آنذاك _ فهم متآمرون ، قساة ، غلاظ القلوب ، لم يقدموا لمصر منجزا ً واحدا ً ، و لم يلتزموا في حربهم التي شنوها ضد مصر ب ( أخلاقيات المحاربين ) _ و لو لمرة واحدة _ بل أشاعوا الرعب ، و نموا التآمر ، و احتقروا المصريين ! تواطأ الناشر مع ( عيسى ) على اعتبار " رحلة الدم " رواية ، لينجو الكتاب من أية مساءلة تاريخية أو توثيقية أو أخلاقية ! و لم يكن الكتاب _ و هو ليس رواية بالمناسبة كما أوقن بوضوح ! _ أكثر من منشور موتور ، ينفجر حقدا ً ضد الإسلام ، تاريخا ً و رموزا ً . خذل ( عيسى ) الناشر _ الذي حاول بحيلة الشكل الروائي أن يفلت من المساءلة _ حيث أوضح المؤلف ، بما يتجاوز الوضوح ، أن : " .. جميع شخصيات هذه الرواية حقيقية ، و كل أحداثها تستند على وقائع وردت في المراجع التاريخية .." ، و هنا أطاح " عيسى " بحيلة الناشر الكسيحة ، فنص صراحة أنه يذكر وقائع تاريخية ثابتة ، و مضى " عيسى " يحشد في المقدمة عناوين لخمسة عشر مرجعا ً تاريخيا ً ( يزعم ) أنه عاد إليها ، في ثنايا الكتاب ، مع أن الكتاب في صفحاته الداخلية لم يوثق في الهامش حدثا ً تاريخيا ً واحدا ً بمرجعه ( أعني توثيق كل واقعة تاريخية بذكرعنوان المرجع و رقم الصفحة و تاريخ النشر و الطبعة في الهامش ! ) و هنا يتضح لنا أن رص عناوين المراجع التاريخية في المقدمة ، لم يكن أكثر من محاولة ساذجة لتخويف الدارسين و القراء ( أو تحذيرهم الصارم من محاسبة الكتاب تاريخيا ً ) ، و إيهامهم أن كل ما تضمنه الكتاب ( حقائق ) لا يتطرق إليها شك ، مع أن خيال ( عيسى ) ، انطلق بحرية مطلقة لتشكيل مشاهد الكتاب ، و تلوينها بوجهة الكاتب و معتنقاته و تقييماته الخاصة للأحداث التاريخية ، حتى و إن تجاوزت هذه التقييمات الواقع التاريخي الفعلي ، بل أكاد أقول : حتى و إن لوت ذراع الأحداث ، فأظهرت شخوصا ً في ثياب الملائكة _ و لم يكونوا كذلك ! _ و آخرين في زي الأبالسة الخالصين للشيطنة و التآمر و الإيذاء _ و هم المسلمون بطبيعة الحال ! _ و لم يكونوا كذلك بل كان فيهم _ ككل المجتمعات _ الخيرون و الفسدة ! لخص " عيسى " في منشوره / شبه الروائي الموتور ، موقف شريحة واسعة من النخبة ( المسيطرة ) على المشهد الثقافي ، التي تحمل بالفعل هذا الانطباع الحاقد عن ( الفتح الإسلامي لمصر ) ، و لم تجرؤ منذ عقود ، أن تقوله بهذا الوضوح ( أكاد أقول بهذا التوقح المخاصم لأي تقييم تارخي منضبط ! ) ، لكن كتاب عيسى ، أعطى قوة دفع كبيرة ووقودا ً مغذيا ً لكرنفال الاستباحة القادم ل " تاريخ الإسلام في مصر " ، ليغدو المسلمون في مصر _ وفقا ً لتصوره _ في ثوب " الصحراويين " أو " الغرباء " الضيوف ، الذين لا يتعين أن يكونوا ضيوفا ً ثقيلي الظل ، أو خارجين عن البروتوكول الخاص بالضيف بإزاء " صاحب الدار " الأصلي ، و هذا الانطباع المرسخ هو أخطر ما في طرح الكتاب ! مضت سطور الكتاب كعربة الدفع الرباعي ، تنفث سما ً زعافا ً ، بأخيلة طائفية معبأة بحقد شديد ، بدءا ً من السطر الأول ، الذي ينزع عن شخصية ( المسلم ) أية فدائية أو فروسية مدعاة أو بطولة مزعومة ، فالفاتح القادم يظهر في مشهد الاستهلال بهذا الارتعاش : " ..ألصق ظهره بالجدار ، فشعر كأن السور يهتز من رعشة بدنه ..! " ، و هكذا يظهر المقاتل منذ افتتاح ستار البداية خائفا ً ، مرعوبا ً من ملابسه ، يبحث عن الجدران ليختبيء خلفها من المصريين و الروم ، فهل كانت هذه هي الحقيقة التاريخية ؟ ! ! و في مشهد آخر _ في بداية الكتاب _ يصور الكاتب أحد المسلمين الذين يتلون القرآن بهذه الطريقة الفجة : " .. قاعدا ً بإليتيه على قدميه يتلو قرآنا ً .." ( ص 11 ) ، فلماذا حشر الكاتب لفظ ( الإلية ) أو ( المؤخرة ) في مشهد التلاوة ؟! و ما الهدف سوى الاستباحة و كسر الهيبة منذ البداية بوضع كلمة " قرآن " إلى جوار كلمة " الإلية " او المؤخرة " لسحب القاريء إلى توجه ذهني و نفسي معين تجاه حركة الفتح الإسلامي لمصر، أو تجاه مسلك الفاتحين و طبائعهم ( الشاذة ) أو ( المنفرة ) ؟! و يمضي الكاتب _ بنفس الأخيلة الترامادولية المعربدة _ يصف ( عمرو بن العاص ) ، بكل الأوصاف القبيحة ، فهو مشغول عن جنوده المقاتلين بصبغ لحيته ب ( الحناء ) و تنميق صورته أو تشذيب هندامه و كأنه منفصل عن الواقع الخارجي ! ( ص 19 ) أما الجنود المصاحبون له ، الذين جاءوا معه من الشام ، فتائهون ، خائفون ، غير مقتنعين بمهمتهم القتالية المفترضة في مصر ! و ينفجر أحدهم _ و هو من اليمن _ صائحا ً في وجه ( عمرو ) : " إنا لم نخلق من حجارة و لا حديد ! " فيرد عليه ( عمرو ) : " اسكت فإنما أنت كلب ! .." فيعاود الرجل الرد : " فأنت _ إذن _ أمير الكلاب ! " ( ص 20 ) و هكذا نكون بإزاء تشكيل عصابي من الغزاة ، المتفرغين طول الوقت للتلاوم و البذاءة و الردح المتبادل ، فلا تعرف أخلاقهم معنى الترفع ، و لا خطابهم المتبادل معنى ( عفة اللسان ) ! فهل وصل الأمر بأشد أعداء التاريخ الإسلامي _ فيمن نعرف من المؤرخين أو المستشرقين _ أن يطل على مشهد الفتح الإسلامي لمصر بعشر معشار هذا الغل الأسود ؟! و عندما يفكر ( عمر بن الخطاب ) _ رضي الله عنه _ في إمداد عمرو بمقاتلين أشداء لتقوية جبهته ، تأكل الغيرة القاتلة كبد عمرو ، فينفجر صائحا ً : " إنها حسابات ابن الخطاب العجيبة ! " ( ص 22 ) فهل كان هذا هو رد فعل ( عمرو ) الذي أثبتته مراجعك التاريخية الخمسة عشر أيها المؤرخ / الروائي الهمام ؟! و هل هذا هو ما ذكره الطبري و ابن سعد و البلاذري و ابن الأثير ، أم أنك قد عدت _ في التوثيق _ إلى كتاب ( ألف ليلة و ليلة ) / باب " ما قاله الندمان بعد احتساء الكأس العاشرة " ؟! و انقيادا ً مع الأخيلة الترامادولية في الكتاب ، يمضي ( عمر ) في وصلة " شخط و نطر " _ بتعبير الكاتب _ تجاه " معاذ بن جبل " ، فيغضب ( معاذ ) و ينفجر قائلا ً : " لن أطيعك يا عمر في شيء ! " ( ص 27 ) ، فهل كان هذا هو ما دار في مسرح التاريخ الفعلي ، أم ما دار في مسرح ( عكاشة ) ؟! و أية صفحة من كتاب التاريخ الموثوق به ذكرت هذا الهراء ؟! و يمضي الكاتب _ في صفحات مطولة _ ليسرد جذور العلاقة الوثيقة بين ( معاذ ) و ( عبد الرحمن بن ملجم ) قاتل ( علي ) _ رضي الله عنه _ ليؤكد بالمؤشرات المستترة و المعلنة ، أن إجرام ( ابن ملجم ) ، خرج من رحم ( معاذ ) ، و أن معاذا ً و ابن ملجم ، وجهان لعملة واحدة ، خرجت من ماكينة الجريمة و العنف و الاستباحة ! و يظهر عمرو في المشاهد اللاحقة ، شديد السذاجة ، بطيء الفهم _ و هو ما لم يقل به أبدا ً أشد أعداء عمرو في القديم و الحديث حقدا ً و بغضا ً ! _ فحين يؤكد عمر لعمرو أن المقاتل الواحد أو الرجل الواحد من مقاتلي كتيبة الإمداد ب ( ألف رجل ) ، يستدير عمرو ليسأل ( مسلمة بن مخلد ) أحد مقاتلي جيش الإمداد : " .. أين التسعمائة و التسعة و التسعون رجلا ً الآخرون فيك ؟ ! .." فيضحك ( مسلمة ) ملء شدقيه ، من سذاجة ( عمرو ) الذي تصور أن هنالك جنودا ً ألفا ً مخبئين بالفعل تحت ملابسه ، أو في كمه ؟! فهل كان هذا مشهدا ً تاريخيا ً ، أم فيلما ً كارتونيا ً من إنتاج " والت ديزني " ؟! و في مقابل هذا الروح الحقود في تجسيد مسلك الصحابة أو ممارساتهم عموما ً ، يذوب ( إبراهيم عيسى ) ، في رقة قلوب العذارى ، عندما يفرد صفحات مطولة عن ( الأب بنيامين ) ، أثناء فراره في الصحراء من بطش الروم ، فيرسخ قلم عيسى ، بكل ما وسعه من جهد بلاغي ، إطارا ً رفيعا ً من الوقار و الصفح و الاستنارة و الهيبة ( و هي بعينها الطريقة التي تعامل بها مع المشاهد الخاصة ب " أبي مريم " الراهب المريد ) ، و قد كان الأب ( بنيامين ) _ من خلال مراجعتي لأدق المراجع التاريخية _ متمتعا ً حقا ً بهذه الصفات ، التي جعلت المسلمين _ لا غيرهم _ يعيدونه إلى داره و ديره معززا ً مكرما ً مكللاً بآيات التبجيل ، و لكن يبقى السؤال لماذا نسبنا كل الخير و الهيبة لطرف ، و حجبناهما عن طرف آخر ، فبدا أحد الطرفين ملاكا ً سابحا ً في الملأ الأعلى ، و بدا الآخر شيطانا ً مريدا ً يتقاذفه القاع ؟! و لن أحدثك عن الحسرة التي ملأت قلب ( عيسى ) ، و هو يتحدث عما أسماه : " .. تعاون بعض القبط مع العرب " ( ص 53 ) و كأنه غاضب من هذا التعاون و يوشك أن يقول من بين أسنانه الجازة بغضب : " ليتهم لم يتعاونوا مع هؤلاء الغزاة ! " و قد بدا الروح العدواني ذاته حال الحديث عن نجاح عملية الفتح و استتباب الأمر للمسلمين ، حيث نسب ( عيسى ) حالة النجاح إلى ما أسماه " غباء و ضعف المقوقس " ! ! ( ص 54 ) و أصدقكم القول إنني راجعت قسما ً كبيرا ً من كتب المؤرخين التي أرخت للفتح الإسلامي لمصر ، فلم اجد أبدا ً حقدا ً أسود يطفح بهذه القتامة ، و لم أجد غلا ً عنصريا ً ينفجر بهذا الهوس ! حتى أشد الكتابات انحيازا ً ضد المسلمين _ ككتابات " حنا النقيوسي " مثلا ً _ لم تكن بهذه العدوانية الملتاثة ، بل ذكرتنا بتكريم المسلمين للأب بنيامين و إنهاء البطش الروماني السادي الذي شهدته مصر على يد ( دقلديانوس ) و من تلوه في الحكم ! و لي سؤالان جذريان : أحدهما ل ( عيسى ) : ما إحساسك الغالب الآن بعد أن خذلك الذين غازلتهم بهذا الكتاب ، فلم يقفوا إلى جوارك بعد ترحيلك عن قناتك الفضائية المفضلة و إنهاء وجودك الإعلامي على الشاشات ؟! و يبقى السؤال الآخر لمن أوقدوا لعيسى و رفاقه ضوءا ً أخضر بهذه الاستباحة غير المسبوقة : هل هذا النوع من الكتابات الطائفية الصريحة يمكن أن يبني وطنا ً ، أو يحجب عن الأعين ما يلابس المشهد المصري من إخفاق مؤلم في كل المستويات و الأصعدة ؟!