اختارت الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح دعم الدكتور محمد مرسى، مرشح حزب الحرية والعدالة، وجماعة الإخوان المسلمين، فى انتخابات الرئاسة.. واختار حزب النور، الذى يعد أبرز أحزاب التيار السلفى دعم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح فى انتخابات الرئاسة.. واعتبر القراران بمثابة اعتراف وتسليم بفكرة تعدد المرشحين الإسلاميين وعدم وجود أية فرصة للاتفاق على مرشح إسلامى واحد. وقد أعلنت الهيئة الشرعية وحزب النور قرارهما بعد لقاءات مع المرشحين وبعد تصويت ديمقراطى اتضحت فيه نسبة المؤيدين والمعارضين.. وهذه سابقة تستحق الإشادة.. فلم تعد هناك أسرار فى العمل السياسى الإسلامى فى ظل نظام يتشكل على أسس الحرية والانفتاح والشفافية. وجاءت الممارسة الديمقراطية فى كل من الهيئة الشرعية وحزب النور على هذا النحو لتؤكد نهاية فكر التنظيم المغلق وفكر السمع والطاعة وفكر الخلايا التنظيمية العنقودية، التى لا يعرف بعضها بعضا.. وهذه ميزة العمل السياسى العلنى، التى برزت فى سلوك أكثر الهيئات تحفظًا داخل التيار الإسلامى. كان كثير من الكتاب والباحثين يتعاملون مع التيارات الإسلامية على أنها كتلة واحدة.. أو رتق واحد غير قابل للتعدد والتنوع.. واستغرق بعضهم فى وهم الصفقات الأبدية بين الإخوان والسلفيين التى أنتجت برلمانًا له رؤية واحدة.. وكتب بعضهم أن الإخوان والسلفيين يفصلون البلد على مقاسهم وحدهم.. وأثبتت التجربة العملية أن هذه رؤية كاذبة، فالإخوان كجماعة وحزب لهم رؤيتهم والسلفيون كدعوة، والنور كحزب لهم رؤيتهم أيضًا.. وهناك أحزاب أخرى سلفية مازالت فى طور التكوين لها آراء مختلفة عن الإخوان والنور. وفى مجلس الشعب يتخذ حزب الحرية والعدالة موقفًا واحدًا حاسمًا لإسقاط حكومة الجنزورى، ويطالب بتشكيل حكومة ائتلافية بقيادته بينما يكتفى حزب النور برفض بيان الحكومة ولا يمانع فى استمرارها حتى تنتهى المرحلة الانتقالية الحالية.. وكان حزب النور يرى أن تشكل الجمعية التأسيسية للدستور من 70 عضوًا من نواب مجلسى الشعب والشورى، بينما كان يرى حزب الحرية والعدالة أن يكتفى ب 40 عضوا من المجلسين فى الجمعية و60 عضوا من الخارج. وجاء قرار الدعوة السلفية وحزب النور باختيار الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح مرشحا رئاسيا ليعطى رسالة واضحة بأن النور يقدم للمجتمع المصرى قرارًا سياسيا يقوم على إدراك الممكن فى متطلبات اللحظة التاريخية، وليس قرارا دينيا يقوم على مبدأ الفرز بين من هم أقرب إليه دينيا من غيرهم. ومعروف أن د. أبو الفتوح لم يكن الأقرب إلى التيار السلفى.. وللسلفيين عليه ملاحظات عديدة فيما يتعلق بالفكر والخطاب السياسى.. لكنهم فى لحظة الاختيار انحازوا للأنسب وفق تقديرهم للظروف والمعطيات الواقعية.. وبعثوا برسالة إلى المجتمع المصرى مفادها أنهم يتمتعون بالمرونة الكافية لكى يقتربوا من التيارات الوطنية الأخرى المنافسة كالليبراليين وشباب الثورة الذين يتداخل معهم فكريًا وسياسيا د. أبو الفتوح. وفوق ذلك.. تحمل رسالة التيار السلفى مغزى آخر بأنهم قادرون على السير فى طريق مستقل عن طريق الإخوان وحزب الحرية والعدالة.. وأنهم ليسوا تابعين ولا حلفاء دائمين وتقليديين.. وإنما لديهم رؤية مستقلة إذا وافقوا وإذا اختلفوا. وربما تؤدى هذه الرسالة واضحة المعالم إلى تفكيك حالة الاستقطاب القائمة مستقبلا.. فينظر الجميع إلى الممارسة السياسية على أسس وطنية تقوم على الصلاحية وليس على أرضية دينية تقسم الشعب إلى إسلاميين وغير إسلاميين. يريد السلفيون أن يقولوا فى هذه اللحظة إن أبو الفتوح هو الأنسب.. وهو الأقدر على مد الجسور والتواصل مع التيارات والأحزاب الأخرى غير الإسلامية.. وتلك رؤية تنزل بصاحبها من علياء المطلق القاطع إلى واقعية النسبى التقديرى، الذى هو صواب يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب.. ومن ثم فإنه يسعى إلى التوافق مع الآخرين.. يسعى إلى الحل الوسط لأنه لا يمتلك الحقيقة الكاملة ولا يمتلك اليقين الكامل. وهذه النقلة السلفية فى حد ذاتها جديرة بالاحترام والتقدير.. جديرة بأن نتوقف عندها ونتأملها ونشجعها.. حتى تتعمق فى أذهان كل اللاعبين على المسرح السياسى فضيلة التواضع والاقتناع بأهمية التنوع والتعدد والاختلاف والعمل معا فى إطار التوافق وليس فى إطار التطابق أو الإقصاء.. بمنطق من ليس معنا فهو ضدنا. وتقول رسالة السلفيين أيضًا إن التيار السلفى يتحرك الآن سياسيًا حسبما تفرضه رؤيته المتفردة.. وأن تباينه أو تمايزه عن الإخوان يضيف مرونة أكثر على المشهد السياسى.. وينزع عن هذا المشهد ثنائيته التقليدية بين إسلاميين وعلمانيين. وتقتضى الموضوعية أن نذكر هنا أن رد فعل الإخوان على قرار النور باختيار أبو الفتوح كان فى غاية الرقى والتحضر والوعى بطبيعة الممارسة السياسية.. خصوصا أن قرار النور قد جاء فى أعقابه أيضًا قرار من الجماعة الإسلامية بدعم أبو الفتوح رسميًا فى انتخابات الرئاسة.. فقد سئل الدكتور محمد مرسى مرشح الإخوان عن قرار السلفيين فقال: هذا حق مكفول لهم ويجعل المنافسة ثرية ويخرجنا من نفق التقسيم على أساس دينى.. بل يجعل المنافسة على برامج أساسها المواطنة ويعطى صورة للعالم عن وجود صورة حقيقية للتنافس الديمقراطى. وكتب الزميل محمد مصطفى فى صحيفة "الحرية والعدالة": سعدت بقرار حزب لأنه يعبر عن ممارسة سياسية لحزب بحث عن مصلحته الخاصة من وجهة نظره دون التقيد بأية التزامات أو صور ذهنية مسبقة بحيث يكون معيار المصلحة واضحًا فى أية ممارسات سياسية مقبلة، دون أن يلزمنا أحد بشىء أو يحدد لنا مغنمًا سابق التجهيز.. وسعدت أكثر حتى تخرس الألسنة وتفجر الفقاعة، التى تقول إن الإخوان والسلفيين يفصلون البلد على مقاسهم لوحدهم.. وهو ما تأكد عمليا كذبه.. فكل أحاديث الصفقات ثبت فشلها.. سواء مع العسكرى أو مع النور أو مع غيرها.. والآن على مروجى تلك الشائعات ومحترفى اختلاق الصفقات أن ينظروا إلى المرآة بازدراء.. الآن أنا متفائل بشدة فلا أصوات مضمونة ولا كتل تساق إلى الصناديق مكبلة بالوعود.. إنما مؤسسات متعددة من كل التيارات تتعرف على المشروع وتقتنع بأهدافه وتؤمن بقدراته وتؤيد وسائله وتثق فى خططه وتدعم مرشحه. على الجانب الآخر كتب الصديق الأستاذ جمال سلطان، رئيس تحرير "المصريون" يقول: قرار حزب النور بدعم أبو الفتوح يبعث برسائل مهمة للحركة الوطنية بأنه لا يتخذ مواقفه وفق عواطف دينية محضة ولا حسابات أيديولوجية ضيقة الأفق ولا وفق صفقات انتهازية على حساب الوطن، وإنما يجعل ميزانه المصلحة الوطنية, ويجعل من هدفه الأول إنجاح الثورة المصرية وتمهيد الطرق أمامها لتحقيق أهدافها المأمولة بأمان ويسر حتى وإن أغضب ذلك قطاعا مهما من التيار الإسلامى مثل الإخوان المسلمين. وعلى هذا النحو تتحرك الكثبان السياسية بسرعة فتتغير المواقف والمواقع بفعل الرياح العاتية، التى تتعرض لها البلاد حاليًا.. والتى أفقدت الكثيرين توازنهم بسبب حداثة عهدنا بالديمقراطية وتقلباتها التى تفرض علينا دائما أن نكون مستعدين لمزيد من المفاجآت.