فى يوم واحد ( 23/4/2012 )؛ صُدر تقريران صادمان عن هيئة المفوضين بمجلس الدولة، الأول يتعلق بما يسمى قطاع الأمن الوطنى (أمن الدولة سابقًا) التابع لوزارة الداخلية، والآخر يتناول محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. فى التقريرين موافقة على إبقاء جهاز الأمن الوطنى، وجواز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، من خلال حيثيات تتضمنها النصوص القانونية فى الموضوعين، دون نظر إلى مواضعات الواقع السائد منذ ستين عامًا، تغوّل فيها جهاز أمن الدولة، وخرج عن حدود واجباته، وتحول إلى جهاز قمع وحشى، مارس الوحشية غير المسبوقة فى التاريخ ضد المواطنين الشرفاء الذين رفضوا نظام الحكم الإرهابى الفاسد المستبد، فتم تلفيق مئات القضايا للأبرياء، وتقديمهم لمحاكمات عسكرية أو استثنائية ظالمة قضت بإعدام بعضهم، أو الحكم بالسجن مددًا طويلة على آخرين، هذا عدا التعذيب الرهيب الذى أودى بحياة المئات، أو أصاب المئات بعاهات مستديمة، فضلا عن حرمان الآلاف من حياتهم الطبيعية وسط أهليهم وذويهم لسنوات طويلة امتدت إلى عشرات السنين داخل الأسوار. لقد أكدت هيئة المفوضين بمجلس الدولة، فى الدعوى التى طالبت بإلغاء قرار إنشاء قطاع الأمن الوطنى وحله ومصادرة جميع مقاره أن الهدف من إنشاء قطاع الأمن الوطنى هو الحفاظ على الأمن الداخلى والتعاون مع أجهزة الدولة المعنية لحماية وسلامة الجبهة الداخلية وجمع المعلومات ومكافحة الإرهاب، وذلك وفقًا لأحكام الدستور والقانون ومبادئ حقوق الإنسان وحرياته، وحرصًا على حماية حريات المواطنين. وقال التقرير القانونى إن المادة "55" من الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس من العام الماضى أكدت أن «الشرطة هيئة مدنية نظامية، تؤدى واجبها فى خدمة الشعب، وتكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن، وتسهر على حفظ النظام والأمن العام والآداب وفقًا للقانون. وأضاف التقرير أن قرار وزير الداخلية الخاص بإلغاء قطاع مباحث أمن الدولة وإنشاء قطاع الأمن الوطنى قد صدر متفقًا ومراعيًا لنص المادة 55 من الإعلان الدستورى، والتى تخول له الحق فى أن يصدر القرارات المنظمة لجميع شئون الوزارة. وقالت هيئة مفوضى الدولة «إن واجب الحماية والأمن يقع على كل مسئول بالدولة أقسم يمين الولاء للحفاظ على الدستور والقانون ورعاية مصالح الشعب وليس مقبولاً أن يتقاعس مرفق الأمن عن إغاثة من يفزع إليه مستنجدًا من الخارجين عن القانون فلا يلقى أذنًا صاغية أو قلبًا واعيًا أو رادعًا. وأكد التقرير ضمانة حق الدولة من خلال تشريعاتها والقائمين عليها بأن تضرب بيد من حديد على كل العابثين بمقدرات وأمن البلد وتعويق مسيرته وهدم اقتصاده القومى. وانتهى تقرير المفوضين بضرورة الحكم برفض الدعوى وتأييد صحة قرار إنشاء قطاع الأمن الوطنى. بالطبع فإن التقرير نظر إلى النصوص الدستورية والقانونية، ونسى أن يولى شطره ناحية الواقع بل إلى القضايا التى صدرت ضد الجلادين على مدى ستين عامًا تكشف جرائمهم ووحشيتهم، وفلسفتهم التى تخرب الأوطان وتدمرها، ولا تحميها ولا تصونها، كما تجاهل التقرير أن جهاز الأمن الوطنى تم تشكيله من العصابات المجرمة نفسها التى كان يتشكل منها جهاز مباحث أمن الدولة، وهم الذين صادروا الحرية، وأشاعوا الرعب فى أرجاء البلاد، وصادروا الإسلام وشوهوه، وجعلوه قرينًا للإرهاب والظلام والجمود والأصولية، وتدخلوا فى شئون الوطن جميعًا، وفى كل كبيرة وصغيرة، بدءًا من السياسة والصحافة والإعلام حتى الجامعات والمدارس والأندية الرياضية والشبابية، فضلا عن المساجد والأوقاف والمؤسسات الخيرية!. لم يتغير شىء فى جهاز الأمن الوطنى عن جهاز مباحث أمن الدولة، باستثناء تسريح بعض الضباط ونقل بعضهم الآخر إلى قطاعات أخرى من الداخلية، أما الكتلة الصلبة لجهاز الرعب فقد ظلت كما هى بفلسفتها الموالية للنظام الفاسد البائد، وتحريك العملاء فى شتى المواقع والمجالات؛ خاصة الصحافة والإعلام، ليس لخدمة الوطن، ولكن لبث الفزع فى نفوس الناس وخدمة النظام البائد، واستعدادًا للانتقام من الأحرار الذين أسقطوه فى ثمانية عشر يومًا مجيدة فى التاريخ!. ولم يكن التقرير الآخر لهيئة المفوضين بالتوصية برفض إلغاء قرار الإحالة إلى المحاكمة العسكرية، بأقل غرابة من الحكم بالإبقاء على جهاز الأمن الوطنى (أمن الدولة سابقًا)، مما يعنى أن من يرفضون الاستبداد والتسلط وإرهاب الحكم سيخضعون لمحن وشدائد لا تقل هولاً عما لقيه هؤلاء تحت الحكم الفاسد البائد. إن بعض الناس يسوغ محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية بما تمر به البلاد من فوضى تتطلب إحالة البلطجية والمجرمين للقضاء العسكرى؛ لأنه الأسرع والأشد ردعًا، لإعادة الأمن والأمان للبلاد من جديد، وهذا الكلام صحيح شكلاً، ولكنه غير صحيح واقعًا، لأن من يقدمون إلى المحاكم العسكرية فى أغلبيتهم من المدنيين الباحثين عن الحرية والرافضين للاستبداد، ولا ريب أن الموافقة القضائية على إحالة المدنيين للقضاء العسكرى، سوف تسبب متاعب كثيرة للوطن، وقد تؤدى إلى ثورات جديدة بلادنا فى غنى عن مضاعفاتها، خاصة أن الثورة قامت من أجل الحرية. وقد عشنا منذ انقلاب 23 يوليه 52 فى غمة المحاكمات العسكرية للمدنيين الأحرار؛ فشنقت وسجنت وأهانت، وأتاحت لأجهزة النظام ومنها أمن الدولة أن تسرح وتمرح وتستبيح كرامة البشر فى مصر!. إنى أؤيد أن يصدر البرلمان تشريعًا أو أكثر يحرم تشكيل جهاز أمن الدولة من جديد بأفراده الذين ظلوا فيه حتى أول مارس 2011، وأيضًا تحريم محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى تحت أى ظرف من الظروف، وخير أن يفلت مجرم، من أن يظلم برىء. وقد كفلت المواثيق الدولية حق التقاضى أمام القاضى الطبيعى لكل إنسان. آن لمصر أن تحيا حياة طبيعية تحفظ كرامة كل فرد فيها دون أجهزة رعب أو قوانين استثنائية!.