كثر الحديث والخلاف بين القوى الوطنية والسياسية وأطياف المجتمع على تشكيل لجنة تأسيس الدستور. وشَابَ هذه الخلافات بعض المفاهيم والأفكار والتى لا تقف عند الخطأ فى الفهم فقط، بل تتعداها إلى تفكيك الروابط الوطنية وغرس بذور الفُرقة والانفصال. وتوضيحًا لذلك فإن لجنة تأسيس الدستور ليس لها شروط أو قواعد محددة، ولكن لكل مجتمع الحرية فى تحديد شروطها بما يناسب ظروفه أو الطريقة التى يظن أنها تحقق الغاية السامية منها بما يحقق طموح وآمال المواطنين ويحافظ على حقوقهم ومكتسباتهم وينظم العلاقات بين مؤسسات المجتمع وسلطاته المختلفة، وهو على الإجمال وليس على التفصيل. لذا فإننى أرى أن هناك بعض الأسس التى يجب مراعاتها فى تأسيس هذه اللجنة وهى ما يلى : نوعية التشكيل : يجب أن يكون الأساس المكون والرئيسى لهذه اللجنة من الفقهاء الدستوريين ثم السياسيين ثم الهيئات والنقابات وممثلى المجتمع المدنى وحقوق الإنسان الذين يرتبط عملهم فقط بما قد يحتويه الدستور. فلا يمكن لجميع النقابات ولا لجميع الجهات والهيئات المشاركة فى هذه اللجنة وإلا لكان يجب أن تكون اللجنة بالآلاف وليس من المائة فقط. وهو إن كان شرفًا لمَن يشارك فى هذه اللجنة يحرص عليه الجميع، ولكن تقديم المصلحة العامة على الشرف الشخصى يجب أن يكون مقدمًا، وخاصة فى وضع الدستور لما له من أهمية. ولذلك يجب مراعاة الآتى : أ- مشاركة عدد ليس بقليل من الفقهاء الدستوريين؛ لأن وجودهم هو إعزاز وإثمار لهذا العمل وسيعمل على توضيح كثير من الأفكار والبدائل التى سيدور النقاش حولها. ب- يعتبر الدستور هو القانون السياسى؛ فمشاركة السياسيين هو الأساس الثانى، وخاصة أن أهم محاور النقاش سوف تشمل طبيعة الدولة (برلمانية أم رئاسية أم مختلطة)، وصلاحيات ومسئوليات كل سلطة من سلطات المجتمع الثلاث والتى ستختلف طبقًا لطبيعة الدولة وطبقًا لما نراه يحقق الصالح العام. فليس هناك مسئوليات محددة لرئيس الجمهورية ولا لرئيس الوزراء ولا لمجلس الشعب فى النظام المختلط مثلاً، ولكن تحديدها سيرجع إلى ما يتم الاتفاق عليه. ولذلك يجب مراعاة الآتى : • إن الحياة السياسية تشمل الأحزاب والقوى المستقلة، بل إن الأحزاب بعضها ممثل بالبرلمان وبعضها غير ممثل أو تحت التأسيس. والأحزاب بعضها قد يكون له أفكار غريبة لا تعبر عن الجماهير وطموحاتها ورغباتها، وعادة ستكون قواعدها الجماهيرية ضعيفة بعكس أحزاب أخرى؛ لذا فإنه ليس من الصالح العام ولا من قواعد الديمقراطية ما ينادى به البعض من تحديد عدد محدد لكل حزب، فيجب أن يكون هناك تناسُب بين قوة الحزب وعدد مَن يمثله، ولكن بمراعاة أن لا يتعدى هذا التمثيل إلى الاستحواذ على غالبية المقاعد. كما يجب وضع القواعد المنظمة لمشاركة القوى السياسية المستقلة والأحزاب غير الممثلة بالبرلمان والأحزاب تحت التأسيس، خاصة أن بها من الكفاءات التى قد تزيد عن كثير ممن بالأحزاب الممثلة، بل إن القوى المستقلة تمثل 95 % من المجتمع بالمقارنة بالقوى الحزبية. ت- يجب مشاركة ممثلين للسلطات الأربع (السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية والصحافة)؛ وذلك لأن من غير المنطقى أن يتم تحديد مسئوليات وصلاحيات هذه السلطات بدون معرفة رأيها وصحة أو خطأ هذه الصلاحيات، بل إن السلطة التنفيذية يجب أن تمثَّل جميع جهاتها التى قد ترتبط بحقوق دستورية، مثل التعليم والصحة والعدل والتموين و ... خلافه. كممثل وحيد لكل جهة من الجهات المرتبطة بالدستور وليس لجميع الوزارات. وعلى أن يتم تحقيق التوازن العددى نوعًا ما بينها وبين السلطة التشريعية، وذلك كعشرة أعضاء مثلاً لكل سلطة منهما. ث- يجب وجود ممثلين لجهات المجتمع المدنى والنقابات المقابلة للجهات التنفيذية والقضائية لتحقيق التوازن فى العلاقات المجتمعية. وذلك مثل نقابة المحامين لمقابلة السلطة القضائية، وبالمثل لنقابة الأطباء والمعلمين والفلاحين واتحاد العمال وحقوق الإنسان ... وخلافه. 1- شروط أعضاء اللجنة: يجب أن توضع شروط لمَن يتقدم للترشيح لهذه اللجنة، ومن أهمها الخبرة الدستورية أو السياسية. وذلك لأن أعضاء اللجنة إن لم يكن لبعضهم من دور فى النقاش الذى سيدور حول بنود الدستور، ولكن صوتهم سيؤثر فى ترجيح بعض الآراء. فإن لم يكن لهم خبرة فى هذا المجال فقد تكون أصواتهم وبالاً على هذا الوطن. بل إن إغفال هذا الشرط قد يكون مخطَّطًا له من قِبَل مَن يريد تمرير دستور يحقق مصالحه وليس مصالح المجتمع؛ ذلك حيث إنه من الطبيعى لتولى أى مهمة أو أى موقع توفُّر شروط لمَن يشغله. وإلا كنا كمَن قَبِل مترجمًا مَن لا يعرف أى لغة أجنبية أو قبلنا بالجامعة مَن لم يحصل على الابتدائية! 2- وقف مخطط تفكيك الوطن: إن هدفنا من عمل الدستور هو المحافظة على حقوق ومكتسبات الوطن، فلا يمكن أبدًا ولا يقبل أن يكون أداة لتفكيك الوطن بغرس بذور العصبيات والأقليات والإقليميات وخلافه. وذلك مثل القول إن التمثيل لا يشمل أهل النوبة ولا سيناء ولا حلايب ولا ... ولا ... ولقد رأيت من الساسة ومن ممثلى حقوق الإنسان مَن يتحدث عن عدم وجود ممثلين لسيناء أو النوبة فى التمثيل السابق، فى حين أن هذا الكلام عارٍ تمامًا من الصحة؛ حيث إنه كان يشملهم !!، والأمر السيئ أن مَن يسمع هذا الكلام ولا يعرف هذه الحقيقة فسيتم غرس الإحساس بالظلم فى نفسه. وإن كان المتحدث لا يعلم خطأ مقولته فهى مصيبة؛ لأنه يدمر ويفرق الوطن بجهل، ولو كان يعرفه فالمصيبة أكبر وأعظم وأفدح. وما يبدو لى أن هناك مخططًا لغرس الإحساس بهذا الاختلاف (قبليًا ودينيًا وعرقيًا)؛ وذلك للتمهيد لتقطيع أواصر الوطن وتفكيكه. وللأسف الشديد فإن كثيرًا من السياسيين وجمعيات حقوق الإنسان تناولوا هذا الطُّعم بدون أن يروا عواقبه وتبعاته. ولو نظرنا إلى الدول الغربية التى تمول وتصدّر لنا هذا الفكر فسنرى أنه لا يُذكر فيها أى من هذه الأفكار. فلا نرى مَن يتحدث فى أمريكا عن حقوق الهنود الحمر أو الأقلية المسلمة أو المهاجرين من أصول لاتينية أو عربية، ولكن يُنظر للمجتمع جميعه على أنهم أمريكيو الجنسية. كما أن نسبة المسلمين فى فرنسا تساوى تقريبًا نسبة المسيحيين فى مصر. ولكنه لم يُرشَّح أى مسلم للرئاسة ولا فى أى وزارة إلا سيدة فى الوزارة الأخيرة، ولم يسمِّ أحد هذا اضطهادًا للأقليات!، ثم عندما تم إقالة هذه الوزيرة المسلمة لم يسمِّ أحد هذا طائفية أو اضطهادًا!؛ فالكل هناك فرنسيون فقط، والعبرة بالكفاءة، ولم يكن لحديث الأقليات هناك من وجود. أفلا يكون لمصر فى قلبنا نفس هذا التقدير. فيجب العمل فورًا على وقف هذه النغمة؛ فالكل مصريون فقط، وما أعزها من كلمة!. والأفضل لنا كمصريين هو تمثيلنا بأفضل أفرادنا بدون النظر إلى الجنسية أو الدين أو القبلية أو المنشأ أو المنبت. ولتكن اللجنة كلها من النوبة أو من العريش، أو كلها رجالاً أو كلها نساءً، فالأهم هو أن يكونوا أكفأ المتقدمين؛ لأنى لا أرى فيهم إلا صفة واحدة "أنهم مصريون". 3- يجب توضيح أهمية لجان الاستماع ودورها: فليس للكل أن يشارك داخل اللجنة التأسيسية لما تتطلبه من شروط وخبرة سياسية ودستورية. ولكنه يمكن أن يشارك من خلال لجان الاستماع. فللجان الاستماع دور مهم يمكن أن يستخدمها الكثيرون لتوضيح مطلب مهم، أو التحذير من خطأ يجب تأكيده فى الدستور. وتوضيح هذا الدور سيعمل على تقليل الإعداد لمطالبة للانضمام للجنة، مع عدم إضاعة فرصهم للمشاركة فى إعداد الدستور لتحقيق الصالح العام. 4- إن ضرر الاختلاف القائم وما سيتتبعه من تأخير فى إعداد الدستور، يضر أكثر من إعداد الدستور ولو بافتقاد صحة بعض مواده. والتى يمكن تعديلها لاحقًا. أما تأخير إعداد الدستور فهو قد يعنى تأخير انتخابات رئيس الجمهورية، وهو ما لا يُقبل فى الوضع الراهن، أو انتخاب الرئيس بالصلاحيات المذكورة فى الإعلان الدستورى، وهى تكاد أن تكون مصيبة كبرى!. فهذه الصلاحيات أسوأ من صلاحياته فى دستور (71) والتى خلقت ديكتاتورًا، فماذا ستصنع بنا هذه الصلاحيات الجديدة؟! لذا فإننى أطالب الجميع بالتنازل وتجاوز أى اختلاف، وليخرج الدستور كيفما يخرج فإن غالبية نقاطه لا اختلاف عليها، والباقى إن حدث به بعض التجاوز فيمكن معالجته لاحقًا. ولكن يجب وقف الإعلان الدستورى بصلاحياته وتجاوزاته الحالية. 5- إعطاء وقت كافٍ وصورة من السير الذاتية للمرشحين إلى أعضاء مجلسى الشعب والشورى قبل انتخاب أعضاء اللجنة التأسيسية لمحاولة الوصول إلى أكفأ العناصر. ختامًا، فإن مصلحة الوطن لن تكون بالتصارع على المشاركة ولا بالمغالبة، ولكن ستكون بحُسن اختيار أفضل العناصر وأكفئها؛ فإن سوء اختيار المحامى المدافع عنا سوف يتسبب فى خسارة قضايانا. فما بالنا بمَن يدفع بنفسه للقيام بدور المحامى وهو لا يعرف القانون؟!، وما بالنا وأن موضوع قضيتنا ذو أهمية قصوى؛ فقضيتنا هذه هى مصر!. حماك الله يا وطنى، ووفقنا لما فيه صلاحك.