رويدا رويدا تسيطر علينا جميع أركان العالم الافتراضي، تفترش المساحات الخواء في النفوس، وتحاول أن تشبع عطشا لا يروى، فالعالم الافتراضي هو حقيقة كماء البحر، كلما شرب الناس منه ازدادوا عطشا، هو أقرب للسراب النفسي، كلما ظنوا أنهم اقتربوا منه ازدادوا بعدا عنه، وقربوا إلى لا شيء. أجهزة زكية وعلاقات غبية، وسائل تواصل اجتماعي أو من المفترض أن تكون كذلك قطعت الناس عن أقرب الناس إليهم، وابتذلت المشاعر الإنسانية في علامة إعجاب أو إعادة نشر أو إشارة أو تكرار. إن كل تلك المظاهر الجوفاء إن أشارت إلى شيء فإنما تشير إلى أزمة نفسية حادة، أزمة اغتراب حقيقي يعيشها الإنسان المعاصر، لو أعاد هربرت ماركوز كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" لاكتشف أن الإنسان المعاصر له عشرات الأبعاد، إنما كلها أبعاد غير حقيقية، أبعاد افتراضية تماما كالعالم الذي يعيشه، أبعادا ليست من لحم ودم، ولا من مشاعر حقيقية ولا حتى من آلام حقيقية. وبقدر ما كانت تكنولوجيا ووسائل الاتصال والتواصل فرصة للتقريب بين الناس إلا أنهم قد وقعوا في معضلة أو مصيدة الوحدة والإحساس العميق بالأزمة النفسية. جفاف العلاقات الإنسانية وخلو المشاعر من أي دفء حقيقي ونفس حقيقي سينعكس بآثاره الضارة على مجمل حياتنا الاجتماعية وسيصيبها بالأمراض والعطب ليس على المستوى النفسي فقط بل حتى على المستوى الجسدي. إن استجداء الاهتمام والبحث عن ما يلفت الأنظار تعبير عن فراغ عاطفي ووجداني يعيشه الإنسان. والبحث عن الشهرة واكتساب الإنسان قيمته من عدد متابعيه أمر يدفعنا إلى البحث عن ذلك المكون النفسي فيما نتبنى من آراء أو ما نتخذ من مواقف خاصة على ساحات ما يسمى بالتواصل. فشبكات العلاقات الاجتماعية يوما بعد يوم تتزايد مساحتها، وزيادة تلك المساحة هو بالضرورة على حساب تآكل مساحة الحياة الحقيقية والعالم الحقيقي، حتى الجهاد وكلمة الحق في وجه سلطان جائر أصبحت تأخذ منحى افتراضي، ويزايد من هو خارج حدود هذا السلطان الجائر على من يقبض على الجمر وينكوي بنيران دولة استبدادية لا ترقب في مواطن إلا ولا ذمة، حتى أصبح من الإنصاف تقييم الناس لا بما يقولون وإنما من أين يقولونه، وصلاحية جوازات سفرهم، وما إذا كانوا يملكون جوازات سفر لدول أخرى أم لا. العالم الافتراضي ليس هو العالم الحقيقي، وليس هذا من تفسير الماء بعد الجهد بالماء، إنما كلما زادت معدلات الغبش في الإدراك وعدم الوضوح في الرؤية صار التأكيد على المؤكد من الضروريات. العالم الافتراضي هو عالم وهمي، ليست الصداقات فيه هي الصداقات الحقيقية، وليست المشاعر فيه هي المشاعر الحقيقية، ليس لدي أدنى اعتراض على من يختار العيش فيه، ويجعله عالمه المعيش إنما فقط يفهم أن هذا عالم افتراضي، إن اشتهرت فيه فليس لقيمة ما تقدمه، وإن كثر عدد متابعيك فليس لأن الدرر التي تقولها لا مثيل لها، ربما كنت ما تقدمه صورة أو لقطة مع أحد المشاهير الذي تريد أن تقتبس من شهرته نورا، وليس ما يقوله من حق (هذا إذا كان يقول حقا أيضا). العالم الافتراضي عالم اصطناعي، يصنع على عين من يركز معه وفيه، هو شكل حديث من أشكال الاستثمار، من يدفع لشراء متابعين هو سيقوم ببيعهم بعد ذلك لشركات الدعاية والإعلان، هي عملية اقتصادية بحتة في إطار رأسمالي متوحش. ذكر مرة أخونا الدكتور نصر عارف أن صفحة الفيلسوف المغربي الكبير الدكتور طه عبد الرحمن عليها سبعة آلاف متابع فقط، فقلت له يا دكتور نصر لو أن أمة بمثل حال أمتنا وما هي عليه من ضعف ووهن وبروز السفهاء ومعدومي القيمة أو الرويبضة (الرجال التافهين) منهم سبعة آلاف يقدرون فيلسوف حقيقي مثل طه عبد الرحمن فهذا خيرا كبيرا. الأمر جد خطير وأحسبه مرشح للزيادة بفعل توغل الآلة الالكترونية على حياتنا، وسيطرتها على الزمن القادم من أعمارنا، وبفعل تشابك وتداخل شبكات الاتصال مع شبكات التواصل، دع عنك الأجيال التي سقطت صرعى تحت عجلات تلك الآلة الجهنمية التي لا ترحم براءة طفل صغير، ولا انشغال عائل أسرة بمحاولة توفير عيشة كريمة لأسرته فتركهم لا حول لهم ولا قوة تفتك بهم آلة عمياء لا تبقي ولا تذر من تواصل عالم حقيقي وليس افتراضي، عالم من لحم ودم ومشاعر ووجدان وكلمات تخرج من القلب فتلامس الآذان، لا قوالب جامدة للتعبير عن الحب والفرح والإعجاب والقبول والرفض وكل المشاعر الإنسانية المختلفة والمتداخلة وأحيانا المتعارضة والتي لا تستطيع أن يستوعبها التنميط الالكتروني السخيف الذي يخل إخلالا واضحا بمشاعرنا الحقيقية، هذا إن لم يكن يشوهها.