اهتم المفكرون المعاصرون برغم اختلاف مآربهم منذ بداية القرن العشرين بأزمة الإنسان المعاصر، وكان الفلاسفة الوجوديون تحديدا هم أكثرهم شعورا وإدراكا بفداحة المأساة التى يعيشها إنسان هذا العصر، فهو على حد تعبيرهم بات مأزوما بقضية هى الأكثر عمقا فى تاريخ البشرية ألا وهى قضية الاغتراب (الاغتراب عند هيدجر الفيلسوف الألمانى «غربة الوطن»). الغريب فى الموضوع أن قضية الاغتراب هذه واكبت تطورات مذهلة فى التنمية البشرية شملت التكنولوجيا والارتفاع فى معدل العمر المتوقع وازدياد التحصيل العلمى، وتحسن مستوى التغذية، وانخفاض عدد الفقراء المدقعين، كما صاحبت هذا كله قفزة معرفية تمثلت بصورة أساسية فى ثورة الاتصالات التى حولت عالمنا بقاراته وأصقاعه إلى قرية كونية متصلة ببعضها عبر وسائل إعلام غير مسبوقة، ولكن هل قاد هذا التقدم إلى تقدم مماثل سواء فى سعادة ورفاهة الإنسان أو فى علاقاته الإنسانية بالتوازى مع ثورة الاتصالات؟، وهل بات إنسان اليوم أكثر وفاقا وتصالحا مع نفسه أو المجتمع أو الكون مما كان عليه قبل الثورة المعاصرة؟!. هذا ما تنفيه الأرقام والدراسات الاجتماعية والنفسية التى أجمعت على أن الاكتئاب متزايد فى الغرب منذ الخمسينيات على الرغم من الرفاهية الظاهرة، وقد بين استطلاع شمل 22 ألف بريطانى يعيشون فى المدن معظمهم دون الأربعين، أن 76% منهم يشعرون بتعب دائم، و58% بتقلبات المزاج، و52% بالإفتقار إلى العاطفة والحوافز، و50% يعانون القلق والاكتئاب وصعوبة النوم والتركيز وضعف الذاكرة، ويذكر عالم الاجتماع الفرنسى «ادرجار موران» أن القدرة الشرائية تزايدت فى فرنسا 3 مرات بين 1960 و1990، لكن هذا النجاح الاقتصادى كان مقابل ثمن إنسانى باهظ تجلى فى الاستهلاك المسعور لأدوية الأمراض العقلية ومضادات الانهيار العصبى التى تضاعفت 6 مرات وعدد المنتحرين الذى تضاعف 3 مرات.. إنها أزمة المعنى التى دار ومازال يدور حولها جدل كبير فى علم الاجتماع الغربى، والتى تنبعث من شعور الإنسان المعاصر بالتعاسة والتوتر، على الرغم من إشباع احتياجاته الضرورية والكمالية بدرجة لم تحدث فى أى حقبة تاريخية سابقة. وفى هذا السياق، ذهب المفكر الرأسمالى «جوناثان بوريت» إلى أن الأساس الاجتماعى للاستياء فى المجتمع المعاصر لا يكمن فى الدخل فقط، بل أيضا فى وحشة الوحدة والسأم والاكتئاب والغربة، فمعظم مشكلات المجتمع الحديث نتيجة البنى الاجتماعية والأيدولوجيات التى تمنع الناس من ممارسة حياة مرضية فى مجتمعاتهم. فلماذا ساهمت ثورة الاتصالات فى تعميق عزلة الإنسان المعاصر وغربته بدلا من أن تزيده التصاقا بالمجتمع وبأنداده من البشر؟، ولماذا أبعدت الفرد عن الناس بمقدار ما قربته إليهم؟، ولماذا تبدو تكنولوجيا الاتصال كأنها البديل الجاف والبارد لحرارة العلاقات الإنسانية؟!.. أسئلة نجد جوابا عنها فيما انتهى إليه التقدم الحضارى من تخلف عاطفى وأخلاقى، وتقهقر التضامن الحقيقى الذى يشعر به الناس ويعيشونه بالمؤانسة ومشاركة الغير ذاته وآلامه لإضفاء شاعرية على الحياة الإنسانية فى مواجهة الآلة الصناعية وتضخم العالم التقنى البيروقراطى، كما نجد جوابا عنها فيما آل إليه الواقع الإنسانى على يد الأيديولوجيات السياسية والاقتصادية التى هيمنت على العصر وقزمت أبعاده الروحية والإنسانية، فالرأسمالية التى كانت سبب نمو الإنتاج كانت أيضا سبب تحويل كل شىء إلى بضاعة، وقد حولت بفظاعتها وتوحشها إنسان العصر إلى رقم قابل للتداول والنفى والإلغاء وفق مقتضيات سوقها المادية، ولم تكن الاشتراكية بصيغتها البيروقراطية التى تم تداولها على مدى هذا العصر أقل توحشا وفظاظة، فقد سحقت الإنسان المعاصر وجعلته جزءا لا حول له ولا قيمة فى آلتها البيروقراطية. إن أزمة الإنسان المعاصر صارت وجودية بفعل دوافع عديدة، أهمها فى رأيى عاطفى ويتمثل ليس فقط فى ذبول الصداقة الودودة، بل يمتد إلى ظاهرة «الحب الرومانسى» إحدى أنبل العواطف البشرية بفعل اختفاء المسافات المكانية الفاصلة بين الناس فى عالم متلاطم يسوده قانون زحام يخرج منهم أسوأ ما فيهم ويعطل أجمل ملكاتهم ويعرى الروح من خصوصيتها مما يفضى إلى تقويض عذريتها مع ما يصاحب ذلك من جرأة فى التعبير عن العواطف وسطحية مفرطة فى التعاطى معها، ومن ثم صارت القصص العاطفية قصيرة العمر، وإن طالت فإنها لا تنتج أثرا فى الروح ولا تغييرا فى معالم الطريق على نحو ما كان مفترضا من العاطفة التى تمثل فى حال صدقها إعادة اكتشاف الإنسانية. والمشكلة أن ذبول العاطفة لا يتوقف عند كونها مؤثرة فى شتى العلاقات الإنسانية المحيطة بها (نموذج الفراشة) فمع شيوعها وتدفقها غالبا ما تنمو أواصر مجتمع رحيم أكثر ترابطا وانسجاما وأقل توترا وصراعا، فالمحب الصادق هو شخص قادر على التواصل مع الكون كله وليس مع المحبوب فقط، ومع اختفائها يصاب المجتمع بتصحر شديد تتسع معه المسافات الروحية بين الناس برغم تضاغطهم الجسدى، وينقطع بينهم التواصل على الرغم من النمو الفائق فى وسائل الاتصال. إن هذه الأزمات أقلقت عالم النفس «كارل يوتنج» الذى رأى أن على الإنسان أن يبحث عن نفسه التى أضاعها فى خضم الأحداث والأزمات، فالإنسان نتيجة الإحباطات الفردية والجماعية وانهيار القيم الأخلاقية انقطع عن جذوره الروحية العميقة، واختل توزانه الداخلى، فبدأ يستغيث باحثا عن خلاص، لكنه بدلا من أن يفتش مخلصا عن مخرج من هذه الأزمة الوجودية الخانقة، استسلم لتيارات فكرية أخرى ظهرت فى تلك الفترة واستشرت وبدأت تسيطر عليه تيارات دعت إلى العبث واللاجدوى، فانتهت به إلى إحساس بالخواء واليأس والغربة وعدم الثقة بالمستقبل، وهذا ما دعا بدوره إلى ضرورة بروز بناء الحكمة والوعى الذى يعمل من أجل إنقاذ البشرية، وأن ينبلج فجر جديد تبزغ فيه شمس الأمل والمحبة والسلام، وربما كان على الإنسان أن يأمل فى حدوث ذلك فى الألفية الثالثة. د. عماد إسماعيل