ونواصل الحوار مع الرسالة الأخيرة التي عممتها جماعة الإخوان على قواعدها وجعلتها بعنوان (خطوط رئيسية في الثوابت والقواعد الحاكمة للحركة والتنظيم لدى الجماعة) ، والتي وضعت عليها اسم الدكتور محمد عبد الرحمن المرسي ، عضو مكتب الإرشاد والقائد الفعلي للجماعة داخل مصر في الفترة السابقة ، والذي قامت السلطات بإلقاء القبض عليه مع مجموعة من كوادر الجماعة . تحدثت الرسالة بعد ذلك عما أسمته : ربانية الدعوة وإسلامية الراية ، وهذا مفتاح مهم جدا تتأسس عليه الروح الإقصائية لدى الإخوان ، ليس لدى القوى المدنية أو غير الدينية ، بل حتى تجاه القوى الإسلامية الأخرى ، لأن دعوة الإخوان ربانية ، وبالتالي فمن خالفها أو رفضها فقد خالف الربانية ورفض الربانية أو خرج على الربانية ، وهذا تأسيس ضمني لمنطق التكفير وإن لم يتم إعلانه بشكل واضح ، لكنه مقتضى أن تكون خارجا على الربانية ومخالفا للدعوة الربانية ، وحقيقة الأمر أنها دعوة بشرية عادية ، حزب بشري ، كتلة إنسانية ، تصيب وتخطئ ، تخلص وتخون ، تحسن وتسيء ، تصلح وتفسد ، بل وتزور أيضا ، على النحو الذي جرى بين أطرافها أنفسهم مؤخرا ، الذين اتهم بعضهم بعضا بالتزوير في ترتيبات تنظيمية أو قرارات أو إجراءات ، فهم بشر من البشر ، ودعوة بشرية ، حزب سياسي ديني عادي ، والقول بأنها "دعوة ربانية" بلاغة لفظية فارغة وعاطفية لأسر القلوب وجذب الأتباع ، لكنها كلام كاذب جملة وتفصيلا ، بل وخطير ، وحتى على مستوى قصد ربانية الفكرة أو التصورات التي تقوم عليها الجماعة فهي اجتهاد بشري ، يخطئ ويصيب ، ويصلح في زمن ولا يصلح في غيره ، لأن خبرة الحياة تختلف من جيل لجيل ومن شخص لآخر ، وما كان يفهمه حسن البنا رحمه الله من أحوال العالم يختلف كثيرا عما يفهمه شباب الإخوان أنفسهم في أحوال العالم اليوم ، والحسابات غير الحسابات ، وبالتالي فالاستجابة لتلك الأحوال والتحديات المحلية والإقليمية والدولية والتفاعل معها يقتضي جهدا مختلفا وأفكارا جديدة وملائمة ، ومحاولة استحضار الاستجابة القديمة للتعامل مع تحديات جديدة يكون سذاجة وغفلة ومحض وثنية تنظيمية وفكرية شديدة الضرر ، والإسلام وحده مجردا هو الدعوة الربانية ، لا يحتكرها شخص ، ولا يؤممها تنظيم ، ولا تنفرد بها جماعة من الجماعات ، أما أي حركة دينية إنسانية فهي دعوة بشرية وجهد بشري نأخذ منه ونترك ، وينبغي أن يصحح هذا المفهوم إذا رغب جيل جديد من أبناء الجماعة في تصحيح الوعي والمفاهيم والخروج من دائرة التكفير الصامت . ثم تناولت الرسالة ما أسمته : شمول الحركة والإصلاح لثلاث مراحل : الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة ، ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف ثم مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج ، نحن هنا أمام تنظيم غامض الأهداف بصورة خطيرة ، ويعمل وفق مراحل مكتوبة بلغة غامضة وفضفاضة وعناوين واسعة ، تبدأ بنشر الفكرة ثم إعداد الجنود والتعبئة ثم التنفيذ ، فإذا وضعت في ذاكرتك ما سبق وقدمه من الحديث عن شمولية الدعوة لأهداف السلطة والدولة والحكم والخلافة ، فأنت أمام التسليم بوجود مشروع انقلابي خطير بالفعل ، وأن تأخره في تنفيذ انقلابه هنا أو هناك ، وسيطرته الشاملة بحكم شمولية الدعوة والتطبيق هي مسألة وقت ، ومسألة اكتمال إعداد الجند وتعبئتهم ، فهل بمثل تلك الأفكار ومثل هذا المنهج يمكن أن تتقدم مجموعة للعمل السياسي أو حتى الديني في الدولة أو المجتمع ، أي دولة وأي مجتمع . في الحديث عن ما أسمته الرسالة "مراتب العمل" ، تحدث عن ما وصفه حرفيا :(استعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية والخلافة المفقودة، ثم أستاذية العالم) ، وأنا للأمانة لا أفهم معنى "أستاذية العالم" ، وجعلها أحد أهداف جماعة دينية ، فضلا عن جماعة سياسية ، سوى أنها بلاغة عاطفية فارغة ، فالعالم ليس مقسما إلى أساتذة وطلبة ، وإنما جهود إنسانية ، يتفوق البعض في جوانب ويتفوق آخرون في غيرها ، سياسيا أو اقتصاديا أو علميا أو فكريا أو ثقافيا أو أدبيا ، كما أن الحديث عن استعادة الخلافة المفقودة الآن غريب ، ويطرح تساؤلات كثيرة عن مفهوم الخلافة عند الجماعة ، لأن البديهي أن تحدد مفاهيمك للأشياء قبل أن تدعو الناس لها أو تقول أنك تعمل لها ، فما هي تل الخلافة الإسلامية التي تعمل لاستعادتها ، ما هي ملامحها وأسسها وبرامجها ونظمها ومؤسساتها والقواعد الحاكمة لشبكة علاقاتها في الداخل الإسلامي وفي العالم وما هو أوجه الشبه والاختلاف بينها وبين ما هو قائم من نظم وروابط إقليمية ودولية ، خاصة وأن مفهوم "الخلافة" الآن يحمل ألف صورة وتصور وأغلبها خيال تاريخي وذاكرة حضارية بدون أي إبداعات مستحدثة ، تماما كما يتحدث الغربيون عن "الامبراطورية" الرومانية مثلا ، ويطالب بعضهم باستعادتها . ثم تحدثت الرسالة عن أهمية الحكم وأسمته "سلطة التنفيذ" وقال أن الإسلام الذي تؤمن به الجماعة جعل الحكم ركنا من أركانه ، ثم أضاف قوله حرفيا نقلا عن رسالة التعاليم للبنا : (إن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف) ، فالجماعة "الشمولية" كما قدمنا ، ترى أن التكاسل عن المطالبة بالسلطة جريمة ، وأن التكفير عن هذا "الذنب" لا يكون إلا باستخلاص قوة التنفيذ "الحكم" من أيدي من يراهم لا يدينون بأحكام الإسلام ، والحقيقة أن هذه الفكرة والتي جعلتها الجماعة أحد أهم أركان المنهج ، هي الأساس الذي عملت عليه كل الجماعات والتنظيمات الدينية التي خرجت بعد ذلك ، وفي رحلة البحث عن "انتزاع" قوة التنفيذ من الحكومات التي يرونها لا تدين بأحكام الإسلام ، أريقت الدماء ، ودمرت أجيال ، وخربت بلاد ، وأفسدت ثورات ، ووقعت الفتنة بين أي دعوة إسلامية وبين جميع القوى السياسية الأخرى ، سواء كانت سلطات حاكمة أو قوى معارضة ، ثم يغضبون عندما يحدثهم أحد عن أن أفكار الجماعة تلك كانت الأساس لنشأة كل جماعات التطرف الدموية بعد ذلك . ثم تحدثت الرسالة بعد ذلك عن أهمية الجماعة ، وأكدت على أنها ليست مجرد غاية ولا حتى وسيلة ، وإنما هي "فريضة" ، وعندما تتحدث جماعة دينية عن "الفريضة" فهي تعني ما تقول ، وأنها جزء تكليفي من الدين نفسه ، وبالتالي فالخروج عليها خروج على الدين ، وفي أدنى الأحوال فترك الجماعة هو ترك لفريضة من فرائض الإسلام ، وهذا تطرف خطير وأستغرب أن يظل مستمرا طوال حوالي ثمانين عاما بدون مراجعة ، بل ونعيد التأكيد عليه في العام 2017 ، وقد أكدت الرسالة في تعليقها على تلك "الفريضة" أنها تظل باقية حتى لو قامت حكومة إسلامية ، فستكون قوة مساندة موازية ، أي أن الدولة الإسلامية في تصور الإخوان ستكون فيها سلطتان ، سلطة "المرشد" وسلطة "الحكومة" ، وقد تم تطبيق هذا المبدأ حرفيا في العام 2012 في مصر وكان سببا في هلاك الجماعة والثورة المصرية معا ، وتأسيسا للخراب الذي عم البلاد والعباد بعدها ، لو كانوا يعقلون