حتى هذه اللحظة لم يصدر عن أي "مسئول" مصري رفيع ولا سميك أي تعليق عن "مرثية" ترحيل عشرات العائلات القبطية من العريش بسبب فقدانهم الأمن وعجز الدولة عن حمايتهم من هجمات داعش ، فقط قامت وزارة الخارجية مشكورة بترجمة ونشر تصريح مقتضب للبابا تواضروس يدين فيه الإرهاب ويندد بوحشيته ، رغم أن القضية الآن قضية دولة وليست قضية كنيسة ، فضيحة نظام سياسي وليس مسئولية البابا ، والحقيقة أن برود الأعصاب الذي تتعامل به الدولة مع تلك الكارثة يصيبك بالدهشة الممزوجة بالاكتئاب ، تشعر كأن الذي يحدث أمر عادي ، أو أنهم كانوا يتوقعونه ، أو ينتظرونه ، كما أنه من الواضح أن أهالينا أقباط العريش في حالة استسلام لمعنى أن الدولة غائبة أو عاجزة ، وكل مناشداتهم الآن تنحصر في أن يحموا الحافلات التي تقل المهجرين من شمال سيناء إلى الإسماعيلية حتى لا يتعرضوا لهجمات مسلحة من التنظيمات الإرهابية ، إلى هذا الحد وصلنا في مصر ؟!. والحقيقة أن عمليات ترحيل وتهجير أهالي شمال سيناء تجري على قدم وساق منذ ثلاث سنوات على الأقل ، كما أن نشاط تنظيم داعش العنيف والدموي كان مستمرا منذ سنوات ، فما الذي حدث طارئا أو جديدا حتى يعلن أن داعش تستهدف الأقباط حصريا في العريش ، ولماذا لم تستهدفهم طوال كل تلك السنوات ، هذا سؤال يستدعي إجابة وافية ومقنعة لهذا التطور ، خاصة وأنه من الناحية الأمنية والعسكرية البحتة ليس من مصلحة التنظيم تفريغ المدينة من سكانها ، سواء كانوا أقباطا أو غيرهم ، فهل هذا التطور هو رغبة من التنظيم في إحراج الدولة والنظام السياسي والسيسي نفسه أمام المجتمع الدولي ، باعتبار أن المجتمع الدولي حاليا لا يبكي ولا يجزع إلا على الأقليات الدينية والعرقية في منطقتنا ، أمام الشعب نفسه بغالبيته فأن يحرق بجاز أو يقتل أو يذبح أو يختطف أو يهجر فهذا أمر عادي ومفهوم ولا يؤثر قليلا ولا كثيرا على العلاقات الطيبة . الملاحظة السابقة تسري أيضا على النخبة المصرية وإعلامها ، مع الأسف ، حتى أولئك الذين ينتسبون إلى ثورة يناير ، ثورة "الإنسان" ، فقد صمتوا جميعا على عمليات الترحيل والتهجير والذبح التي تتم للأهالي في شمال سيناء طوال السنوات الماضية ، كانت الأخبار تمر أو تتسلل عبر صفحات التواصل الاجتماعي فيستقبلونها كأنها أخبار الطقس أو حالة الطرق في الصباح ، وهناك حاليا آلاف الأسر من أهالي العريش ورفح والشيخ زويد تعيش في أوضاع بائسة في أحياء بالإسماعيلية والقنطرة وما حولها من المناطق ، ولم يبك عليهم أحد ، ولا انتفض من أجلهم إعلام ولا ساسة ولا نشطاء ، فقط عندما مست تلك الجرائم المهينة أسر أهلنا الأقباط فزع الجميع وقفزوا في صدارة الصورة والمشهد ليتقمصوا هيئة فرسان الاستنارة والإنسانية وحقوق الإنسان ، وينددوا بما يجري في العريش على يد الإرهاب ، وينددوا بموقف الدولة أيضا ، كما نشطت حملات لجمع التبرعات والمعونات للأسر القبطية المهجرة ، أما آلاف الأسر الأخرى من أهالي العريش المهجرين التي تعيش البؤس على شاطئ القناة منذ سنوات ، فهم المواطنون من الدرجة الثانية حرفيا ، هم "الكم" المنسي والأرقام الضائعة . كان الرئيس عبد الفتاح السيسي أمس يلقي كلمة ضخمة فخمة من عباراته الشهيرة على طلبة أكاديمية الشرطة ونقلت الصحف كلماته وهو يقول لهم : لن يستطيع أحد أن يمس هيبة الدولة ، وفي تلك اللحظة التي يتكلم فيها كانت حافلات المهجرين الهاربين من شمال سيناء تقطع الصحراء هروبا إلى الإسماعيلية من سيطرة تنظيم داعش ومذابحه في العريش بعد عجز الدولة عن حمايتهم أو تأمينهم . هيبة الدولة تستدعي تحركات فوريا لتأمين الأهالي ، مسلمين وأقباط ، في العريش وإعادة العائلات آمنة سالمة مكرمة إلى مدنها ، وتأمين بيوتهم وكنائسهم ومساجدهم وأعمالهم وطرقهم ، هيبة الدولة تستدعي وقف هذه المهزلة التي وصلت لفتح الكنائس لاحتضان المهجرين من العريش ونداءات الاستغاثة وجمع التبرعات ، فهذا كله يعني أن الدولة ليست فقط بلا هيبة ، بل غير موجودة بالأساس ، وإذا لم تتحرك الدولة فورا ، بكل أجهزتها ومؤسساتها ، من أجل إعادة حقوق الأسر القبطية والمسلمة على السواء ، وإعادة العائلات إلى بيوتها ومصالحها ومدنها ، وبسط السيطرة الكاملة على شمال سيناء ، وتأمين المواطنين ، فإن الباب سيفتح على مصراعيه لتأويلات وشكوك شديدة الخطورة عن معنى هذا الذي يجري .