هل فكرت يوماً أن تصير عبقرياً؟، نعم، فلا تظن أن العبقرية وراثة فطرية، بل هى تكوين وصناعة وإعداد، ولأنك ضحية سياسات تعليمية جاهزة تفتقر التخطيط والمنطق والمنهج والرؤية الاستشرافية، فلا أعتقد أنك فكرت يوماً فى هذا. كما أنك فى ظل ثقافة يتربع على عرشها الوزير السابق الفنان فاروق حسنى منذ أمد طويل، لا أعرف عدد سنواته لكثرتها وكثرة حوادثها ويومياتها، ومن خلفه من وزراء لم يصنعوا شيئاً للثقافة باستثاء مجهود ضئيل يقوم به الدكتور شاكر عبد الحميد على استحياء متعمد، لا يمكن أن تلتقط بعض الأسماء الزاهرة المنسية فى تاريخ حضارة مصر. بالإضافة إلى ما تمارسه بعض وسائل الإعلام الفضائى الفراغى من هوس بكل ما يدغدغ المشاعر ويلعب على العواطف الرخيصة، ويثير مشكلات مثل البالوعات، وحجب المواقع الإباحية، وحرق الأعلام والشعارات الدعائية لمرشحى الرئاسة، واستقبال الفرق الرياضية الفائزة بقوة الحظ بالورود. فكل ما سبق يجعلنا مضطرين إلى الجهل بقامات وهامات فكرية وحضارية فى مصر المحروسة. ومن بين هذه القامات ما أردت الحديث عنه فى عجالة وهو الدكتور أحمد قدرى أحد الضباط الأحرار فى حركة 23 يوليو 1952 وعالِم المصريات المشهور فيما بعد ورئيس هيئة الآثار المصرية الأسبق. ولأننا دولة تتمتع بتناقض شديد فى الاحتفاء بشخصياتها، على سبيل المثال ، الاحتفاء والاحتفال بالشخصيات الرياضية والفنية، نجد إهمالاً وتجاهلاً مقصوداً تجاه بعض الشخصيات مثل هذا العالم الجليل، الذى أثرى الحياة الثقافية والأثرية بأعماله ومؤلَّفاته الأكاديمية. وفى الوقت الذى يتمتع فيه كثيرون الآن بالنرجسية تميز هذا الرجل بالتواضع الشديد وهو يشرف على مشروعات إنقاذ معابد فيلة والنوبة فى المدة من 1970 إلى 1977 فى إطار الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة مع اليونسكو. دون التفكير فى نقل تمثال رمسيس الثانى من مكانه، أو إقامة فنادق ربحية تحجب علاماتنا التاريخية كقلعة صلاح الدين، وكأنها مؤامرة لطمس هُويتنا التاريخية والحضارية، لاسيما أننا منذ وقت طويل لم نشيد صرحاً عملاقاً يكون شاهداً على تاريخية مصر حتى الآن. والأغرب فى سيرة الدكتور أحمد قدرى أن منظمة اليونسكو والتى فشل الوزير السابق فاروق حسنى فى الفوز بمنصب مديرها، لجأت إليه بشأن الإشراف على إدارة التراث العالمى لمشروعَى إنقاذ آثار مدينتى صنعاء باليمن الشمالية وفاس بالمملكة المغربية . وفى نفس الوقت الذى نكتفى فيه بمشاهدة آثارنا الهاربة والمهرّبة إلى متاحف العالم، أسهم هذا الرجل فى تسوير وتبويب وإغلاق شارع الرفاعى المحصور بين مسجدى الرفاعى والسلطان حسن؛ حيث كان شارعًا مسفلتاً تمر منه السيارات والمواصلات العامة، فتم جعْله للمشاة فقط وتم تسويره بأسوار معدِنية حديدية سوداء وتبليطه للمشاة كدرجات بالحجر الجيرى الأبيض الضخم . وما أجمل الدكتور أحمد قدرى حينما يتحدث عن الوطنية، عندما قال إن الوطنية مفهوم ثقافى، من هنا لا يمكن أن نتصور وطنية بدون رؤية ثقافية، وبدون فهم وبدون ارتباط فكرى بالمكان والتاريخ، والوعى التاريخى جزء مهم جداً من الشعور بالوطنية، أما اليوم فالوطنية لا تعنى سِوَى تعليق الأعلام المصرية الصينية الصنع فوق شرفاتنا، وعلى زجاج سيارات شباب الفيس بوك، حتى أن أكثر الأشياء التى أضحكتنى عند زيارتى مؤخراً لمدرسة سمعت فيها تلميذًا صغيراً ينظر إلى العلم القديم والممزق فوق ساريته وهو يقول لزميله: أنا شفت العلم ده فى ماتش أبو تريكة. الله على الوطنية التى نكرسها فى نفوس النشء بمدارسنا، فالعلم قديم وممزق، وكل ما يعرفه عن منتخب بلاده أنه فريق أبو تريكة، مع احترامى الشديد للاعب على سلوكه وأخلاقياته الرفيعة . ومن أبرز ما ذكره هذا الرجل العالِم هو أن التاريخ هو الذاكرة الجماعية للشعوب، وأننا إذا تصورنا إنساناً بلا ذاكرة فلا نستطيع أن نتصور شعباً بلا ذاكرة جماعية، وإن عدم الوعى بالتاريخ يمثل خللاً خطيراً فى القوام الوجدانى والفكرى لأى شعب من الشعوب. إن الأوهام التى تترسَّب فى وجدان شعب غير واعٍ عن تاريخه والأخطاء والمفاهيم الخاطئة التى يتصورها، كل هذا يشكل عِبئًا على ضميره وعبئًا على وجدانه وعِبئًا على فَهمه الصحيح للأشياء، فمن خلال الوعى التاريخى يتطور مفهوم هذا الشعب. ولأننا اعتدنا أن نقدم كبش فداء لكل كوارثنا طبقاً للإرث التاريخى منذ عروس النيل، فكان الدكتور أحمد قدرى ضحية سقوط قطعة حجر من كتف تمثال أبى الهول بعد أن اتُّهِم فى سقوط هذا الحجر من الكتف وقامت الدنيا ولم تقعد إلا على جثة الدكتور قدرى، ووفقاً لهذا المنطق علينا أن نحاسب نابليون بونابرت وجنوده؛ لأنهم تسببوا فى سقوط أنف أبى الهول، وكذلك نحارب عوامل التعرية؛ لأنها أسقطت أجزاء من جسده. وبقى أن نذكر أن من إنجازات هذا الرجل هو حديقة الخالدين، وحديقة الحوض المرصود، وصدور عدد كبير من السلاسل الثقافية وقت ما كان المصريون يقرأون مثل سلسلة المائة كتاب، وسلسلة الثقافة الأثرية والتاريخية، بالإضافة إلى أعمال الترميم التى أقيمت فى عهده مثل قبة المدرسة الجوهرية الملحقة بالجامع الأزهر، ومسجد محمد على وبئر يوسف، ومسجد الناصر محمد بن قلاوون بالقلعة، وسور مَجرَى العيون، وقلعة قايتباى برشيد، ومسجد القاضى يحيى بباب الخلق، ومسجد أحمد بن طولون، ومن الآثار القبطية قام بترميم دير مار جرجس بأرمنت، ودير الشهداء بإسنا، ودير العذراء بأخميم.