وفقًا لمنظور دوائر الحكم والفكر الأميركية، فإن مصر لم تفِ حتى الآن بمعايير النظام الديمقراطى، ومعلوم أن«الكونجرس» الأمريكى كان قد وضع شروطًا العام الماضى وبعد الإطاحة بالرئيس المخلوع حسنى مبارك تربط المساعدات الأمريكيَّة بإحراز تقدُّمٍ فى تحوُّلِ مصر إلى الديمقراطيَّة. على الرغم من ذلك، أفرجت إدارة الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» يوم الجمعة الماضى رسميًّا عن المساعدات العسكريَّة لمصر، وكان التبرير المعلن لهذا الإفراج هو أن أمن الولاياتالمتحدة القومى يستلزم مواصلة المساعدات العسكريَّة. الواقع أن التسريبات كانت قد سبقت قرار وزيرة الخارجية الأمريكية «هيلارى كلينتون»الرسمىِّ، وتوقعت استئناف تدفق المساعدات العسكرية للجيش المصرى، فضلاً عن أن الشكوك حامت فى الأصل حول إمكانية إقدام الإدارة الأميركية على مثل هذا الإجراء الذى ليس من شأنه فقط أن يهدد علاقتها بمصر، بل ويقوّض دعامة أساسية من دعائم سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية فى المنطقة. آخر مناسبة أصبحت فيها المساعدات التى تقدمها الولاياتالمتحدة موضع تساؤل، كانت عقب الحملة التى قامت بها الحكومة المصرية ضد منظمات "دعم الديمقراطية" غير الحكومية والتى كان من بينها فروع لبعض المنظمات الأميركية؛ مما أثَار غضب أعضاء فى «الكونجرس» ودفع الإدارة الأمريكية للتلويح بأن المساعدات باتت فى خطر. والحقيقة أن التلويح الأمريكى «الميكانيكى» حينها بوقف المساعدات، ألمحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية بإمكانية وقف المساعدات ليلة مداهمة مقار المنظمات كان معبَّرًا أوَّلاً عن أهمية هذه المنظمات الأمريكية ودورها بالنسبة للمصالح الأمريكية ونفوذها فى مصر، وثانيًا أهمية المساعدات وحيويتها بالنسبة لعلاقات مصر بواشنطن. تتعدَّد التخمينات حول دوافع القرار الأمريكى باستئناف المساعدات والنتيجة واحدة، ألا وهى استمرار العلاقات بين الإدارة الأمريكية والمؤسسة العسكرية المصرية بما تمتلكه الأخيرة من سلطةٍ فعلية، ودستورية (وفقًا للإعلان الدستورى)، فتأمين طريق المساعدات من جديد يُظهر رغبة واشنطن فى تدعيم علاقاتها ومن ثم نفوذها فى القاهرة. فبفضل العلاقات القويَّة والمتينة بين الجيش الأمريكى والجيش المصرى منذ أوائل الثمانينيات استطاعت الولاياتالمتحدة الإبقاء على التواصل مع أهل الحل والعقد فى مصر خلال واحدة من أصعب الظروف التى مرت بها البلاد ألا وهى ثورة 25يناير، فضلا عن ميزاتٍ أخرى عدَّدها قائد هيئة الأركان الأمريكية المشتركة «مارتن دمبسى» منتصف الشهر الماضى عندما عارض قطع المعونات عن مصر، وإن أقرَّ بالحاجة إلى إشعار السلطات المصرية ب"عواقب" بعد الحملة الأمنية التى شنتها على المنظمات الأمريكية. وقال «دمبسى» حينها فى الكونجرس: انقطاع المساعدات من شأنه أن يُبْعد الأجيال القادمة من الضباط العسكريين المصريين عن الولاياتالمتحدة. وأشار إلى المميزات التى تَضْمَنَها المساعدات الأمريكية، ومن بينها حقوق التحليق فى الأجواء المصرية. وأضاف أنه عندما نستخدم المال لنفصل أنفسنا عن شركاء سابقين لا يؤدى ذلك إلى نتيجة جيدة. المساعدات العسكريَّة ضرورة للسياسة الداخلية الأمريكية كذلك بقدر ما هى ضرورة للسياسة الخارجية؛ بعض المسئولين الأمريكيين ذهبوا إلى أن قرار الإفراج عن المساعدات جاء لأن أى تأخير أو وقف للمساعدات التى تقدر ب 1.3 مليار دولار يهدد بتجميد العقود الحالية مع مصنعى الأسلحة الأمريكيين، وتوقف خطوط الإنتاج، ودفع غرامات مالية كبيرة يمكن أن تصل إلى 2 مليار دولار. فى كل الأحوال، يؤشّر استئناف المساعدات العسكرية إلى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ما زالت تراهن على «العَسْكَر» وبقوة، ولا شك فى أن الرهان يحفه الكثير من المخاطر فى بلدٍ ما زالت تتلاطم فيه أمواج التغيير، وفى حياة سياسية تشهد صعود قوى جديدة لا سيما الإسلاميين. ولكن الأمريكيين لا يلقون ب"بيضهم فى سلَّةٍ واحدة"! ففى الوقت الذى يزودون فى الجيش بربع ميزانيته، لا يتوانون عن إغداق الأموال على منظَّماتٍ لطالما اعتبرها الجيش تهديدًا لاستقرار مصر السياسى، ويسعون حثيثًا للتقارب مع الإخوان المسلمين التى تربطها بكلٍّ من الطرفين السابقين عَلاقاتٍ ملتبسة.