تشن الصحافة المصرية حملة شرسة على مجلسى الشعب والشورى هذه الأيام بعد القرار الذى صدر عن الاجتماع المشترك للمجلسين يوم السبت الماضى بانتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور بنسبة 50% من داخل البرلمان بغرفتيه، و50% من الشخصيات العامة وممثلى الهيئات والمؤسسات. النخب الثقافية والسياسية ذات الصوت العالى فى الصحف والقنوات التليفزيونية أيضًا أعلنت التحدى والرفض.. وهددت وتوعدت بإحداث أزمة دستورية، وربما موجه جديدة من المظاهرات والاعتصامات والمواجهات العنيفة إذا تم انتخاب الجمعية التأسيسية على هذا النحو. وقال الدكتور محمد البرادعى على صفحته بشبكة التواصل الاجتماعى "فيس بوك": كيف لمجلس مشكوك فى شرعيته أن يضع الدستور الدائم للبلاد ويعرّض هذا الدستور للسقوط؟!. وقال د.جودة عبد الخالق وزير التموين: إن الأغلبية فى مجلسى الشعب والشورى ليست دائمة، بينما الدستور هو الدائم وهو مصدر السلطات.. وطالب عمرو موسى المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية أن يعيد النواب النظر ويتراجعوا عن القرار الذى اتخذوه. ولم يظهر فى الصحف والمجلات السيارة رأى يدافع عن قرار أعضاء مجلسى الشعب والشورى.. ولم يقُلْ أحد أن هؤلاء الأعضاء مارسوا حقهم الذى أسنده إليهم الإعلان الدستورى فى مادته الستين.. وأن الناخبين المصريين حين صوتوا فى الانتخابات البرلمانية كانوا ينتخبون نوابًا، يعرفون جيدًا أنهم مَن سينتخب أعضاء الجمعية الدستورية.. لكن الصحف تزخر بالأخبار والتحقيقات والحوارات والمقالات التى لا تكتفى بمعارضة قرار المجلسين وإنما تتجاوز ذلك إلى التهديد والوعيد.. وتنقل عن النواب الليبراليين واليساريين والوفديين والناصريين أنهم سوف يقاطعون الجمعية الدستورية وربما يستقيلون من مجلسى الشعب والشورى. والمعروف أن الأعضاء الذين وافقوا على تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور بنسبة 50% من داخل البرلمان و50% من خارجه يمثلون 85% من مجموع أعضاء مجلسى الشعب والشورى، بينما لا يمثل الإسلاميون فى المجلسين أكثر من 70%.. وهو ما يعنى أن ال15% الآخرين من المستقلين والنواب الليبراليين.. بينما هناك 15% من هؤلاء النواب المستقلين والليبراليين ظلوا على رفضهم.. وهى نسبة ضئيلة كما ترى فى داخل البرلمان بالضبط، مثلما نسبتهم ضئيلة خارجه.. لكنهم أصحاب الصوت العالى والمنتشر.. وهم الضيوف الدائمون على برامج التوك شو.. وهم أصحاب المساحات الأكثر اتساعًا فى صفحات الجرائد القومية والحزبية والمستقلة. هم يدركون جيدًا أنهم بلا قواعد شعبية وأنهم لن يفوزوا فى أى انتخابات تجرى على مستوى القاعدة الجماهيرية، لكن المنابر الإعلامية المفتوحة لهم والمساحات الصحفية المتسعة أمامهم تغريهم بتضخيم الذات حتى ليكادون يشعرون أنهم مُلاك اليقين وأصحاب الحكمة، ولا يقين ولا حكمة لغيرهم. وإن المرء لَيعجب من هجومهم الشرس والمفاجئ على المادة 60 من الإعلان الدستورى وكأنها وُضعت بالأمس.. مع أنها كانت واضحة جلية فى صياغتها وما تهدف إليه منذ أن صدر هذا الإعلان فى 30 مارس 2011م.. ولو كانت الظروف قد خدمتهم وتمكنوا من وضع ما أسموه بالضوابط والمعايير لانتزعوا حق تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور من البرلمان وفرغوا هذه المادة من مضمونها ومغزاها.. وقد حاولوا ذلك بالفعل من خلال مجهودات د. يحيى الجمل ود.على السلمى صاحب الوثيقة الشهيرة ومن خلال د.محمد نور فرحات فى المجلس الاستشارى.. لكن هذه المجهودات باءت كلها بالفشل. والحقيقة التى لا مِراء فيها أن هذه النخب الليبرالية بدأت فعلاً تشعر بالخطر منذ أن تم التصويت على التعديلات الدستورية فى 19 مارس 2011م وتبين لها أنها منفصلة تمامًا عن الجمهور العريض ذى النزعة الإسلامية الخالصة.. وأنها تسير فى وادٍ وهذا الجمهور يسير فى وادٍ آخر.. ثم تأكد لها ذلك مرة أخرى فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى. وفى المواجهة الحالية حول تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور لا تستطيع النخب أن تخوض المعركة فى المبادئ الدستورية ذاتها، والمواد التى يجب أن تكون محل توافق فى الدستور وإنما تخوض فى الخطوات الإجرائية بهدف التشويش والتشويه ليس إلا.. فإذا سادت الأغلبية الإسلامية خُطوة إلى اليمين تصايحت النخب الليبرالية أو التى تدعى الليبرالية أن الخطوة خطأ والصواب أن يكون إلى اليسار أو إلى الأمام أو الخلف.. المهم "خالفْ تُعرفْ". والقاعدة الشعبية الإسلامية العريضة تعرف هذا التكتيك وتسخر منه.. خصوصًا عندما ينطوى على تهديدات وعلى تحريض مثلما يحدث الآن.. فالنخب الليبرالية تهدد بإحداث أزمة دستورية.. وتحرض الإخوة الأقباط وتخوفهم من انتقاص حقوقهم الدستورية ورغبة الإسلاميين فى نسف مواد "المواطنة" المتساوية بين جميع المصريين بصرف النظر عن الدين والعرق والجنس واللون.. ونسف المواد الدستورية التى تقر الحريات الدينية وحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية ووضع المزيد من القيود على دور العبادة وممارسة التمييز الدينى والطائفى. والهدف واضح من هذا المسلك المعيب.. الذى لا يستند إلى الحقائق.. فالتيار الإسلامى فى البرلمان وفى الشارع لم يطرح شيئًا من هذه الافتراءات وإنما يقر إقرارًا واضحًا بحقوق المواطنة والمساواة الكاملة بين المواطنين المصريين فى الدستور والقانون.. إلى جانب تمسكه بحرية الاعتقاد والعبادة وممارسة الشعائر.. وتمسكه أيضًا بحق أصحاب الدينين السماويين الآخريْن فى الاحتكام لشرائعهم الخاصة فيما يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية. وإذا كانت النخب التى تدعى الليبرالية تريد أن تخوض معركة سياسية وقانونية مع القاعدة الشعبية التى اختارت الإسلاميين فلا بأس، ولكن بشرط أن تكون التوجيهات واضحة وقضية الخلاف متبلورة.. أما محاولات الوقيعة والدس واستخدام الأقباط ستارًا فى المعركة لتخليص الحسابات والانتقام فذلك ما لا يرضاه أصحاب الضمائر اليقظة.. ومَن يدعون أنهم يحبون مصر والمصريين. إن الوحدة الوطنية بين المصريين أكبر من أن تستخدم كسلاح فى الصراع السياسى والفكرى والثقافى.. وهو صراع قديم جديد.. وسيظل هكذا بين منظومتين للقيم.. منظومة التغريب ومنظومة الأصالة.. منظومة التبعية ومنظومة الانتماء الحقيقى للعقيدة والوطن والجذور.. منظومة النخب التى تدعى الليبرالية ومنظومة الجمهور المسلم.. ولن يكون النصر فى هذا الصراع إلا للأصالة والانتماء.. قال - الله تعالى - : "فأما الزبدُ فيذهبُ جُفاءً وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ فى الأرضِ".