كتب دكتور عبد المحسن القحطاني تحت العنوان السابق سيرته الذاتية، و هي سيرة حافلة بالأحداث و الأشخاص و المواقف، وهي تؤرخ لمرحلة زمنية مهمة في المملكة العربية السعودية. العنوان مستمد من التراث، و عبر عن أزمة وقتها ، كما يعبر عن أزمة أشد الآن، فالمصطلح القديم جاء من رأي واصل بن عطاء في مرتكب الكبيرة وهو بمجلس الحسن البصري، و خلاصة رأي واصل أنه في منزلة بين الكفر و الإيمان. جاء اختيار كاتب السيرة لعنوان "منزلة بين منزلتين"معبرا عن حالة و مجسدا موقف فكري للكاتب، فهو معبر عن حالة والده معه بعد وفاة والدته، فكان يمثل دور الأب والأم في آن واحد، وهو دور لا يملك مقوماته و أغواره، ولذا جلس بين المنزلتين، وهو ما ورثه فيما بعد عن أبيه، إذ بد أ شعوره بانتمائه إلى المنزلة بين المنزلتين، فلا هو بالقادر على القيام بدور الأب الخالص فحسب، تحسسا لليتيم، ولا هو بالقادر على ممارسة دور الأم ليعوضه عنها، أو عن شيء مما كان يمكنه الحصول عليه منها. و اختار الكاتب المنزلة بين المنزلتين موقفا فكريا و نقديا، قناعة ، و نقدا للوضع الفكري و النقدي العربي، ظهر ذلك عندما كان طالبا في كلية اللغة العربية، فالمواقف و القضايا بين فريقين، وتسمع منهما ضجيجا من القول، وترى صخبا من الفعل و هو يتابع ذلك مستنكرا، و يشعر بغربته في المكان، وبغرابته على الزمان، وكأنه جاء زرعة في غير أوانها، ونبتة في غير مكانها، وظل يراوح بين الخوف والرجاء، والأمل واليأس، والشك واليقين، والسعادة والتعاسة، والحزن والفرح، والابتهاج والعبوس، ويعيش في برزخ بين هذه المتضادات، وكأنه أراد لنفسه أن يكون في المنزلة بين المنزلتين، وهي منزلة لا يرضاها إلا من كان واثقا من نفسه، بعيدا عن التحزب، أو الانزواء إلى إحدى هاتين المنزلتين، وهي مكانة لا يرقاها إلا المستقلون عن التصنيف. فموقفه ليس قصورا و لا ضعفا بل ثقة و اقتناعا، كما أنها تميز و استقلالية، وبعد عن التحزب التعبوي المتشنج. و يعاود الكاتب شرح مذهبه الفكري الوسط بين طرفين، في موقف الطلاب بالجامعة من قضايا الأدب، فهم يرددون كثيرا منها من غير اقتناع، أو اختبار لها، ما يفتأون يتركونها إلى غيرها. و هذا الموقف أوجد بالنسبة له حيرة فكرية و منهجية، ظل متسائلا ومتأملا، أيصدق ما يطرح عليه، ويتخلى عما رسخ في ذهنه، أم يدمج بين هذين الأمرين ليخرج بجديد ربما يختلف، ألم يقل: إنه وجد نفسه في منزلة بين المنزلتين؟!، وهي أكثر أمانا، و أعمق أثرا، و أبعد نظرا في قضايا لا يملك هو ولا أترابه القطع فيها، لأنها ظلت آراء شاردة، أو نظرية مستعصية، وهذه تحتاج إلى زمن كي يؤكد صدقها، أو رجحانها على الأقل. و يقتنع الكاتب أن هذا الموقف الفكري النقدي نفعه طالبا، فظل صاحب أولية في دراسته، ومستوى جيد في تحصيله العلمي، وهو ما يؤكد أن المنزلة بين المنزلتين، تعطي كل ذي حق حقه، وتتمتع بالإنصاف، ويظل هاجس العدل مسيطرا عليها. و بسط الأمر أكثر في الفصل(25) فيذكر أزمة الفكر و النقد العربي من خلال ظاهرة التحزب الفكري و النقدي، و آثارها العلمية و المنهجية . فيذكر أن الناس غالبا إما مع، أو ضد، ومن ثم لا يرى كل فريق إلا طرفه مواليا أو معارضا ويشيح بنظره عن منطقة وسط بينهما، فضلا عن إعراضه و صدوده عن اتجاه الطرف الآخر، ومن ثم لا يتجاوز منجزه، ولا يستفيد من غيره، وتظل رؤيته قاصرة على ما يؤمن به، وهذا بلا شك يفقده الكثير، ويحرمه متعة المناقشة والتنوع . يوضح الكاتب أن فكرنا بين قطبين متباعدين، و كل قطب لا يرى إلا نفسه، و لا يعترف بمنطقة وسط ، و يراها عيب فكري و منهجي، و ربما لا يعرف من عند الطرف الآخر، فهو قانع متعصب لمذهبه دون مناقشة، كما أنه لا يعترف بالتعدد واقعيا، و إن قاله لفظا. ثم تتوالد الظواهر من التحزب، فيصبح لكل حزب أتباعه و جوقته، و تنشأ المعارك الوهمية، و كما تظهر تحولات (من و إلى) كل حزب و اتجاه، و هي تحولات عن هوى نفسي و ليس عن موقف معرفي. و يكون العلم و المعرفة ضحية المعركة الوهمية ؛ بليِّ أعناق النصوص لخدمة توجهيهما، أو تجييش فكريهما ، والتجييش جاء إفرازا لما صنعوه في توظيف المعلومات وظلت الحقائق أول ضحايا الخلاف غائبة؛ إذ لو كان اختلافا لجاءت أموره مبنية على الرأي والرأي الآخر، ولتقبَّل كل فريق ما يخدم قضيته، حتى ولو أتى من طرف مغاير. يوصلنا الكاتب إلى أن ظاهرة التحزب الفكري المتعصب مرض قاتل للفكر، بل يضحي أول ما يضحي بالفكر ذاته، فلا مناقشة و لا حوار ، و لا منهج لقراءة النصوص و الأفكار و القضايا، فأي شيء بقي من الفكر؟؟؟ بعد ذلك يكون طرح المنزلة بين المنزلتين بمزاياها مقنعا، و هي المنزلة الأقل صوتا و صخبا، و هي منزلة كاتبنا و موقفه" أما أصحاب المنطقة الوسطى؛ فإنهم يعيشون خارج هذا الصخب، وقد أُسقِطوا من الفئتين اللتين تجدان لهما ما يؤيدهما، اقتناعا، أو التحافا. و تتيح هذه المنزلة الوسط الحيادية في النظرة و التأمل و التناول، و إن اتهم خطأ بالتذبذب.، تفيد هذه المنزلة صاحبها في الأخذ من الفئتين أجمل ما عندهما، ويدع ما يراه فيهما من سلبيات. كما أنه لا يشخصن(إن صح التعبير) الأمور، ولا يتناول المذاهب على عواهنها و إطلاقها، و إنما يختبرها، ويسائلها، ثم يتخذ موقفه منها، و هذه مسلمات المنهج العلمي و آلياته . أهدى الكاتب عمله إلى خمسة أشخاص أثروا في حياته تأثيرا كبيرا، أمه هي الحاضر الغائب في السيرة، و كأن لم تغب والدته عنه"وكأن الأم ماثلة أمامه أتم التمثيل، وحاضرة أقوى ما يكون الحضور، فصورة أمه المتخيلة و إن لم يدركها كانت أمام عينيه في كل حديث و إنجاز، يتلقف من العجائز أوصافها ويلتقط من أحاديثهن طباعها، حتى استقرت في ذهنه صورة متخيلة لها" يقدر الكاتب لوالده ما فعله معهم ، و هو جد عظيم، بل أننا قدرنا هذا الرجل الذي قام بدوره في حماية أسرته ، و الوصول بها إلى الاستقرار الاجتماعي، و تكوين أناس أسوياء عصاميين، و أعطاهم من التربية ما نفعهم في دنياهم و دينهم، و ترك فيهم من الأثر ما أدركوه و ما لم يدركوه، لأنه في شخصياتهم، لكن الثابت أن والدهم قد أحسن التربية، و وفق في التوجيه و المراقبة . و جمعت علاقة خاصة بين الأخوة الثلاثة، فظروف الأسرة وحدت مصيرهم بشكل كبير ، مع أب يتابع و يوجه، و ظل الأخوة على وفاق و اتفاق رغم اختلاف الطباع و المواقف إلا أن التقدير و الاحترام و السند ظلوا هم الدائمين، و لم تمس تغيرات الحياة مشاعرهم الأخوية، بل و ضع الكاتب أخويه في منزلة الأب اعترافا بالجميل. أم الزوجة فهي المودة و الرحمة و السند و المعوضة عن يتم متجذر في النفس. وعنون الكاتب مقدمته ب" ومن قبل" و بعد قراءتي للسيرة أرى أن يضيف " ومن بعد" فقراءة المقدمة بعد الانتهاء من القراءة المتأنية للعمل يساعد كثيرا في تقدير المقدمة، كما تجيب عن أسئلة في السيرة. و المقدمة لخصت و فسرت و بررت، فلخصت العمل في أنها أعطت للطفولة حيزا كبيرا، و السبب فرادتها بين اليتم و ترك البادية و السكن في الرياض العاصمة، نقلات كبيرة و فجائية، أماكن و ناس، تذكر الأحداث ، كيف تم هذا كله؟. و فسر أسلوبه المتعمق من ملكة فيه و هي ملكة التأمل و التعمق فكرا و لغة، " ولم يستطع التخلص من هذا الأسلوب المتعمق، حينا في الرؤية، و أخرى في الفكر، وثالثة في اللغة الفلسفية" و بررت كتابة السيرة أنها ليست سيرة فرد ، بل سيرة جيل و قضية أمة في الفترة التي عاشها"الأحداث ليست مجرد فعل فردي، و إنما هي فكر جمعي يتشارك فيه أطفال كثر، يجمعهم جيل واحد، أو مرحلة زمانية، وللمكان عليهم أثره وتأثيره، وهو يزعم أن من يقرأ هذه السيرة من أترابه ربما يرى أنها له، أو عنه؛ لأن الأحداث في كثير من تفصيلاتها متشابهة عند لفيف منهم، وهذا ما خفف الوطء عنه، واستدعاه إلى الإمعان في تحويلها لتنصب على جمع من أمثاله، وهم كثر، شاركوه: يتما/ طفولة/ مراهقة/ شبابا". و يؤكد الدلالة الجمعية بقوله" لأن ما مر به من أحداث هو بمثابة سجل تجربة جمعية، لا سيرة فردية؛ لامست من مر بها بهذا الدور، أو عاش تلك المرحلة".. كما يبرر اهتمامه بالمكان و الحس المكاني الجغرافي عنده، لكن هذا لم يقلل من اهتمامه بالأحداث "؛ لأن الأحداث تسحبه بتلابيبه إليها، فكان طائعا لهذا التموج وتلك الشلالات من الأحداث .. يتنقل بينها، يحط ركابه في مرحلة، ويمر بأخرى، ويسرع بثالثة. وبعض هذه الأحداث يمر كالريح مسرعة،وبعضها كالغيم يمر بهدوء، وثالثها يتعمق في الأرض ويحتاج إلى من يخرجه من عمقه ليرى النور بين الناس". و لا ينكر الكاتب الانتقاء في السيرة" حاول أن يتفلت من بعض السلبيات، ويوغل في الإيجابيات ... وحذف بعضا من السلبيات، مع أنه كان يرغب أن يطلع عليها القارئ، بيد أن خشيته من سوء التفسير دفعته إلى إخفاء بعض ذلك، وليس كله؛ فالحياة البشرية تجمع بين النواقض والثنائيات" و يذكر الكاتب أن السيرة تحتاج إلى تكملة، لم يمسها هذا الجزء، وهي تمتد لأكثر من أربعين عاما؛ حققت نجاحا في أمور، و إخفاقا في أخرى، ولامست فترة مهمة، وطفرة مالية، وتطورا ذوقيا، وتأسيسا معرفيا .. أمور كثيرة حدثت لصاحب هذه السيرة، وتشارك فيها مع جيل بأكمله، وتلامست مع الجيل التالي عليهم؛ فقد كانت الأربعون سنة الماضية هي مفصل مهم في تشكيل مفاهيم أمة بأكملها، وليس صاحب السيرة وحده، أو حتى جيله، و سيصبح تسجيل هذه الفترة مدونة صادقة له ولجيله.