«التنظيم والإدارة» يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل    محافظ مطروح يلتقي قيادات المعهد التكنولوجي لمتابعة عمليات التطوير    تعرف على طقس غسل الأرجل في أسبوع الألم    تنفيذ 3 قرارات إزالة لحالات بناء مخالف خارج الحيز العمراني في دمياط    «ماجنوم العقارية» تتعاقد مع «مينا لاستشارات التطوير»    ب 277.16 مليار جنيه.. «المركزي»: تسوية أكثر من 870 ألف عملية عبر مقاصة الشيكات خلال إبريل    بايدن: الحق في الاحتجاجات الطلابية لا يعني إثارة الفوضى    صحيفة يونانية: انهيار القمة الأمريكية التركية.. وتأجيل زيارة أردوغان إلى البيت الأبيض    القوات الروسية تتقدم في دونيتسك وتستولى على قرية أوشيريتين    الأهلي يطلب ردًّا عاجلًا من اتحاد الكرة في قضية الشيبي لتصعيد الأزمة للجهات الدولية    سون يقود تشكيل توتنهام أمام تشيلسي في ديربي لندن    صحة مطروح تتأهب لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة الباجورية بالمنوفية    مهرجان كان يمنح ميريل ستريب السعفة الذهبية الفخرية    معرض أبو ظبي.. نورا ناجي: نتعلم التجديد في السرد والتلاعب بالتقنيات من أدب نجيب محفوظ    فنون الأزياء تجمع أطفال الشارقة القرائي في ورشة عمل استضافتها منصة موضة وأزياء    خالد الجندي: الله أثنى على العمال واشترط العمل لدخول الجنة    هيئة الرعاية الصحية بجنوب سيناء تطلق حملة توعية تزامنا مع الأسبوع العالمي للتوعية بقصور عضلة القلب    «كانت زادًا معينًا لنا أثناء كورونا».. 5 فوائد غير متوقعة لسمك التونة في يومها العالمي    حزب مصر أكتوبر: تأسيس تحالف اتحاد القبائل العربية يساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في سيناء    «أكثر لاعب أناني».. مدرب ليفربول السابق يهاجم محمد صلاح    كوريا الجنوبية ترفع حالة التأهب القصوى في السفارات.. هجوم محتمل من جارتها الشمالية    عاجل| الحكومة تزف بشرى سارة للمصريين بشأن أسعار السلع    6 مصابين جراء مشاجرة عنيفة على ري أرض زراعية بسوهاج    مواعيد قطارات مطروح وفق جداول التشغيل.. الروسي المكيف    "بسبب الصرف الصحي".. غلق شارع 79 عند تقاطعه مع شارعي 9 و10 بالمعادى    بينها إجازة عيد العمال 2024 وشم النسيم.. قائمة الإجازات الرسمية لشهر مايو    وزيرة البيئة تنعى رئيس لجنة الطاقة والبيئة والقوى العاملة بمجلس الشيوخ    برلماني سوري: بلادنا فقدت الكثير من مواردها وهي بحاجة لدعم المنظمات الدولية    رسائل تهنئة عيد القيامة المجيد 2024 للأحباب والأصدقاء    النجمة آمال ماهر في حفل فني كبير "غدًا" من مدينة جدة على "MBC مصر"    الفائزون بجائزة الشيخ زايد للكتاب يهدون الجمهور بعض من إبداعاتهم الأدبية    توقعات برج الميزان في مايو 2024: يجيد العمل تحت ضغط ويحصل على ترقية    استشهاد رئيس قسم العظام ب«مجمع الشفاء» جراء التعذيب في سجون الاحتلال    محافظ جنوب سيناء ووزير الأوقاف يبحثان خطة إحلال وتجديد مسجد المنشية في الطور    ما هو حكم قراءة الفاتحة خلف الإمام وكيفية القراءة؟    تجديد حبس عنصر إجرامي بحوزته 30 قنبلة يدوية بأسوان 15 يوما    تراجع مشاهد التدخين والمخدرات بدراما رمضان    الخطيب يُطالب خالد بيبو بتغليظ عقوبة أفشة    الأمم المتحدة: أكثر من 230 ألف شخص تضرروا من فيضانات بوروندي    لحظة انهيار سقف مسجد بالسعودية بسبب الأمطار الغزيرة (فيديو)    الفندق المسكون يكشف عن أول ألغازه في «البيت بيتي 2»    أذكار بعد الصلاة.. 1500 حسنه في ميزان المسلم بعد كل فريضة    انتبه.. 5 أشخاص لا يجوز إعطاؤهم من زكاة المال| تعرف عليهم    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي الثاني للطب الطبيعي والتأهيلي وعلاج الروماتيزم    رئيس الوزراء يعقد اجتماعًا مع ممثلي أبرز 15 شركة كورية جنوبية تعمل في مصر    فقدت ابنها بسبب لقاح أسترازينيكا.. أم ملكوم تروي تجربتها مع اللقاح    الرعاية الصحية تطلق حملة توعوية حول ضعف عضلة القلب فى 13 محافظة    شراكة استراتيجية بين "كونتكت وأوراكل" لتعزيز نجاح الأعمال وتقديم خدمات متميزة للعملاء    تزايد حالات السكتة الدماغية لدى الشباب.. هذه الأسباب    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع بدء تفعيل مبادرة تخفيض أسعار اللحوم    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    الأهلي يجهز ياسر إبراهيم لتعويض غياب ربيعة أمام الجونة    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    تحديد أول الراحلين عن صفوف برشلونة    تأهل الهلال والنصر يصنع حدثًا فريدًا في السوبر السعودي    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقاصد السياسية للتغيير
نشر في مصر الجديدة يوم 09 - 02 - 2012

إن منهجية التغيير تبدو مرتبطة في جانب منها بالنظرة الحزبية للتغيير. فوجود الأمة كحاملة للواء التغيير أو انحساره في مجموعة أو حزب، يمثلان حالتين منفصلتين، ومسارين مختلفين. فبقدر ما يساهم التحزب في زيادة سرعة وكثافة العمل، وطي المراحل، بقدر ما تراهن الأمة على النفس الطويل والمنهجية الهادئة. والحقيقة أنه على الرغم من وضوح مواقف العقائد والمذاهب، وتفهمنا لمبررات نشأتها عقيديًا وتاريخيًا، إلا أن التاريخ الإسلامي وحاضره لم يحسما شرعية منهجية التغيير التي ظلت مترنحة بين الموالاة والمواجهة، وبين المنازلة والمناصرة، وظل السؤال حول من المصيب ومن المخطئ مجلبة للاختلاف ولنشوء المدارس والفرق والمذاهب. وبمطالعة تاريخ الحركات السياسية والاجتماعية في التاريخ الإسلامي نجد أن الحاضر الإسلامي بقي مشدودًا إلى تاريخه غير المحسوم، ودون أخذ العبرة من مجريات التاريخ والأحداث، وبقيت الأسئلة مطروحة. ودفع عدم الحسم هذا إلى تبني منهجيات مختلفة ومتباينة من أطراف الأمة التي تشكلت في أحزاب وطوائف، والذي عمق لاحقا الفرقة بينها. على قطعة الفسيفساء هذه تشكلت الحركات الإسلامية الحديثة عبر واقعها الذي تنزل فيه الغامض والعنيف أحيانا، ومرجعيتها التاريخية المهتزة، وغلب على التحزب والفرقيَّة الدفع إلى منهجيات التغيير العنفي والمتسرع، وغابت الأمة.. حيَّدتها السلطة حتى يغيب العتاد والعدة، وهمَّشها قطاع عريض من الحركة الإسلامية؛ لأنه ظن أنه قادرًا على حمل التغيير والفوز بالسلطان، فهو الجيل الفريد، والنخبة الواعية والصفوة الفاعلة! إن الحركة الإسلامية التي نرتئيها ليست ذات لون واحد ولا فكرة واحدة، بل هي مجموعة رؤى وأفكار وممارسات، تجمع في صف واحد المعارض للسلطة والموافق لها، تشمل التحريري (نسبة إلى أنصار حزب التحرير) والتبليغي (نسبة إلى جماعة الدعوة والتبليغ) والصوفي والزيتوني (نسبة إلى جامعة الزيتونة)، والسني والشيعي، والموَكَّلين بالكتاتيب وأئمة المساجد وخطباء الجُمع، حتى إن كانوا يأخذون خطبهم من السُّلطات القائمة ويتغافلون عن ظلمها طمعًا في استمرار مسيرة الدعوة، وأعضاء هذه الحركة الإسلامية هم الجماهير، ومن يتبنى مشروع التمكين بلا مواربة، ومن لا يعرف من الإسلام سوى ركعات فرض تتبعها أحيانا ركيعات نوافل، أو من يعرف الله في رمضان وينساه فيما سواه، المصلي البسيط والصائم الأبسط والحاج المتقاعد، أو من يحمل في قلبه ذرة إيمان، وهم كثير. فالمشروع الإسلامي الذي يتبناه هذا الكلُّ الجامع ويُجمع عليه القاصي والداني منهم، بسيط في تعبيراته عميق في محتواه، وهو ما عنته آية التمكين من سورة الحج " الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" (الحج: 41)، والتي سبقته آية النصر والمؤازرة الغيبية له "وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز" (الحج:40)، وفي هذا أكثر من مغزى. وعناصر التمكين هذه التي تمثل برنامج التسيير والتنزيل في خطوطه العريضة، تُشكل أيضا عناصر مرحلة ما قبل التمكين، أي برنامج الأمة ومشروعها الذي تنادي به وتجتمع عليه. يقول ابن عاشور في تفسيره "فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأمّا إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم" [1]. وعندما يصبح برنامج هذا اللقاء الإسلامي خطوطا عريضة وواضحة فإنه يمكن له أن يؤلف بين فئات الأمة ويجمع شتاتها ، قال تعالى: "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال: 63). فهل يرفض التبليغي الأمر بالمعروف؟ وهل يخالف الصوفي النهي عن المنكر؟ وهل يعترض الزيتوني على إيتاء الزكاة؟ وهل يعاند إمام الخمس وخطيب الجمعة على إقام الصلاة؟وليس اعتباطًا أن كانت دعوات الأنبياء خطوطا عريضة وميسَّرة في السياسة والاقتصاد والاجتماع حتى تجمع الناس حولها. وهذه الخطوط العريضة لا تلغي الجانب التفصيلي والتجزيئي، ولكن هذا يمثل محطة أخرى ومرحلة ما بعد التمكين. فعلى الحركة الإسلامية حينئذ أن تبين أن الربا من المنكر وتأتي بالمعروف بديلا، وأن الخمر والزنا والغش والرشاوى رذيلة وتأتي بالفضيلة بديلاً، وهذا ليس صعبًا في تنزيله، ولا يواجه الأمة، بل يمثل توضيحا لخطوط سابقة تبنتها واصطحبتها، فهي صاحبة المشروع وتعلم بوعيها التقاء هذا الجزئي بالكلي، غير أنها تطلب تمكينها من البديل "الشرعي".ووجود هذا اللقاء الإسلامي الحامل للمشروع الإسلامي في خطوطه العريضة لا يلغي الاختلاف في الجزئي والتفصيلي، والذي يمكن أن تحمله داخل الفضاء الإسلامي مجموعات وأطراف، لكن دون المساس بالأصل الجامع تنظيما وخطابا. ولعل الآية الكريمة "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا" (الحجرات: 9) تؤكد على إمكانية وجود التعارض بين أصحاب المشروع الإسلامي داخل الفضاء الإسلامي، فالباغية منهم، والباغية عليها منهم، والمصلح منهم، وهو ليس عيبا،بل العيب يتمثل في مواجهة مجموعة للأخرى بدعوى وجود السياسي أو غيابه، أو أولوية الروحاني أو تهميشه. فالتعارض المقبول شرعا والمفهوم عقلا والآخذ بأسباب النجاح وسنن الاستخلاف يكون فقط داخل رباعية التمكين: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس خارجه. وقد أرادت قطاعات من الحركة الإسلامية أن تكون طرفا في الصراع، وذلك حسب فهمها واعتبارها من قصص الأنبياء ودعواتهم، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه الذين غالبا ما كانوا أقلية يواجهون مجتمعاتهم بأفكارهم الجديدة ويتصدون لبغيها. وكان النصر دائما حليفهم "واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِه" (يوسف: 21)؛ لأن يد الغيب راعية، والهدف هو الشهادة وإقامة الحجة على هذه الأقوام وتأكيد عدل الله فيهم. غير أن اليوم ليس بالبارحة. ومشروع الحركة الإسلامية لا يتنزل اليوم في مجتمع كافر وجاهلي لا يعرف الله ويشرك بعبادته، بل في أمة زاغ بعضها ونافق بعضها وخاف بعضها وآمن الكثير منها. ولذلك ليست دعوتها نسخة لدعوة الرسل لاختلاف الإطار مع وحدة الهدف. فهذا ليس مواجهة بين الكفر والإيمان وفصلاً بين الأمة والكفار، فالأمة الإسلامية هي جزء من الأمة المدنية التي تجمع كل الأطراف من عقائدية وسياسية متنوعة. فالشيوعي جزء من هذه الأمة المدنية وكذلك الليبرالي والمسيحي واليهودي، ولكل طرف الحق في التعبير عن آرائه في تسيير هذه الأمة (انظر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأنصار واليهود المقيمين، والمهاجرين الوافدين فيما اصطُلح عليه بدستور المدينة) [2].ولم تقع مواجهة بين الأمة الإسلامية والأمة المدنية حتى نكث أحد أطراف هذه الأخيرة المعاهدة [3]، لذلك فلن يُسحب البساط ممن لا يجد نفسه ممثلا- ممن لا يتخذ الإسلام منهجًا - في عناصر التمكين الأربعة وله أن ينادي بما يريد في إطار هذه الأمة المدنية التي تحميها قوانين وتعهدات وخطوط حمراء. والإسلام يستبشر بمن رضي دعوته ويقبل التعايش مع من رفضها "فَإِن تَوَلَّوا فَقُل حَسبَيَ اللهُ لاَ إَلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيهِ تَوَكَلتُ وَهوَ رَبُّ العَرشِ العَظِيم" (التوبة: 129). وهذا ما عايناه في الصدر الأول من الإسلام، ففي وصية الإمام علي إلى واليّه على مصر مالك الأشتر: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم.. فإنهم صنفان، إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".ويتميز هذا الخطاب بميزتين، فهو من ناحية خطاب عام وتجميعي وليس طائفي، يمثل مصالحة للجسم مع نفسه، وهو بالتالي يدعو إلى التقريب وليس إلى التشتيت، وهو من ناحية أخرى خطاب سهل وميسّر، يجعل منهجية التغيير هادئة والتمكُّن سلميا وتنزيل التمكين ذا مراحل ومحطات، لا يصدم ذهنية المجتمع ولا عاداته بل يغيرها بلطف وعلى المدى الطويل، لأن المجابهة وقسرية التنزيل لا تولد إلا جفاء وصدّا وردودا من الداخل والخارج يصعب التكهن بها ومواجهتها. وهذا الحل المنشود يسعى إلى التفاف الأمة حوله وتبنيه وحمله وحمايته، فالمشروع جزء منها وليس مُسقطا عليها، فهي ينبوعه وليست مخبره. يُروى أن الخليفة العباسي المهتدي بالله أراد أن يقتفي أثر عمر بن عبد العزيز بعد قرن ونصف من الزمن، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وزهد في الدنيا وقرّب العلماء وتهجّد بالليل وأطال الصلاة ولبس جبّة الشعر (انظر التطرف والمبالغة)، فثقلت وطأته على العامة والخاصة (لاحظ انسحاب مؤيدي المشروع وحامليه)، فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة حتى قتلوه. ولمّا قبضوا عليه قالوا له: أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها؟ فقال: أريد أن أحملهم على سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته والخلفاء الراشدين! فقيل له: إن الرسول كان مع قوم زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وأنت إنمّا رجالك تركي وخزري ومغربي وغير ذلك من أنواع الأعاجم، لا يعلمون ما يجب عليهم في أمر آخرتهم وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة؟ فقُتل بعد أحد عشر شهرا من خلافته وشرب القتلة من دمه![4]. وقد حاولت السلطات إبعاد قطاعات من الحركة الإسلامية عن هذا المفهوم الجامع بتحييد الدين، بدعوى أنه للجميع ولا يحق لأحد استعماله، وهي كلمة حق أريد بها باطل[5]. وقد وقعت أطراف من الحركة الإسلامية دون أن تشعر في هذا الفخ بتحزبها وتبنيها للدين كطرف سياسي وكمجموعة ضغط ومطالبة ومعارضة، وهو ما جعلها تأخذ بطرف الدين على أساس طائفي وليس على أساس كونه الأمَّة جميعها، وهو ما جعل من قائدها وزعيمها رئيسًا لمجموعة سياسية، ففقد بالتالي التفاف الأمة حوله بكونه قائدًا وعالمًا ومرشدًا ومفتيًا، تتعلق بتلابيبه الجموع وتتمسح على أطرافه الجماهير، التي ترى فيه قائدا لها ومرشدا يتعالى عن السياسة ونفاقها. فيصبح ممثلا للأمة في مجموعها، فهي إطاره وهو زعيمها، وهي المدافعة عنه والحامية لمبادئه وأفكاره. يُروى أن "البهلول بن راشد" كان من علماء القيروان الأجلاء، فأراد أمير البلاد أن يحبسه فخرجت القيروان في عشرة آلاف مقاتل مدافعة عن ابن راشد قائلين للأمير: إياك والبهلول بن راشد فإنه منا بمثابة الرأس من الجسد! كما يصبح الدور الإفتائي للقائد حاسما وبارزا يفوق السلطة التنفيذية نفسها ويجبرها على أخذه بالاعتبار. وقد شهد العالم الإسلامي عزل السلطان العثماني سليم الثالث سنة 1807 استنادا إلى فتوى من مفتي البلاد الذي اتهمه بأنه غير صالح للملك؛ لأنه فرض على المسلمين أنظمة الكفار وأدخل نظم الإفرنج وعوائدهم وأجبر الرعية عليها. كما ساهم ابتداع مصطلح "الإسلام السياسي" من طرف الكتاب الغربيين وأتباعهم من الداخل في الدفع إلى وجود الإسلام كطرف سياسي وحسب، وإذا كانت دعوة الغربيين قد تُفهم على أساس تعودهم على الديانة المسيحية غير المسيَّسة، وتنزيلهم لهذا الفهم على الإسلام بأن أية قراءة سياسية له تجعله إسلاما سياسيا وليس إسلاما فقط، فإن أتباعهم في الداخل قد سخّروا هذا المصطلح لصالحهم وانتهزوه سياسيا ووضعوه جماهيريًّا في غفلة من أصحابه! ورضيت قطاعات واسعة من الحركة الإسلامية بهذا التميّز ظنا منها بأن هذا يؤكد على شمولية الإسلام واحتوائه للبعد السياسي، ونسيت أن مصطلح الإسلام كفيل بهذا الحمل ذاتيًا باحتوائه لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ الذي وصفه الإمام الغزالي بالقطب الأعظم للدين، والذي يجعل الفرد غير جامد في مواجهة الأحداث، بل ساعيا إلى تعديل مجراها بردها إلى اتجاه الخير ما استطاع. وهذا لا يعني فصلاً بين الدين والسياسة، بل تواصل لها في إطار أوسع، فليس هناك انسحاب للسياسة وتفرغ للعلم والتربية والدعوة كما عناه بعضهم[6]،ولكن تواصل للسياسة وانسحاب للتحزب. ولهذا فلا طعن في شمولية الإسلام ولا استبعاد لدوره السياسي المفروض عقلاً وشرعًا.. السياسة عبادة أولا لقد غابت السياسة في فكر بعض ممارسي العمل
العام من الإسلاميين كنشاط عبادي يرجى منه مرضاة الله، وغلب البعد الدنيوي والسياسي على أطوارها، فأضحت مطية للكراسي والمهام والدرجات، ولم يعد يختلف السياسي الإسلامي عن غيره في فهمه لمسارها ولأهدافها. هذا البعد الغائب جعل السياسة تصبح فريضة عبادية غائبة في الذهنية الإسلامية، ونتج عنه تسرع في جني ثمارها وعمل على المستوى القصير المدى، ونسي العاملون فيها أن زمن المسلم متعدّ يجمع الدنيا والآخرة، وأنه لم يُطلب منه أن يكون واضع حجر التأسيس والباني والمرمّم والمزوّق والمسوّق، وحامل مقص التدشين! بل يمكن أن يكون المؤسس جيلا أو أجيالا، والمدشّن أجيالا أخرى. هذا التسرع دفعته عوامل عديدة منها الفهم القاصر للفترة المكية والفترة المدنية، والالتزام ولو في اللاوعي بعدد السنين التي قضتها وكأن التمكين يجب أن يمر من هنا عددا وعدة، أو أن دعوة الرسل قد استُكمِلت في عهد روادها، والمطلوب من الحركات أن تكون شبيهة بها. هذا الخلط بين دعوة الرسل المبنية على عالم الغيب المقرِّر لزمانها ومكانها وبدايتها ونهايتها والمرتبطة أساسا بصاحبها، ودعوة بعض الحركات الإسلامية التي تمثل امتدادا لها في الفكرة والمشروع والهدف، واختلافا في الحمل والمسار والتنزيل، هذا الخلط أدى إلى التسرع وإلى غلبة المنحى السياسي في منهجها في تعاطيها للسياسة وسقط بعدها العبادي. ومن أوجه العبادة في المشروع تأصيل القضايا والقرارات والمناهج، فغيرت حركات أسماءها إلى أحزاب، ولم تسأل عن الشرعية (حتى وإن كان هذا من المباح، فالمباح يُؤصَّل له)، وتغيرت منهجيات التغيير ولم نرَ الشرعية! ومن أمثلة تواجد الغيبي في المشروع مبدأ الاستخارة، الذي لا يمثل تواكلا وانسحابا ولكن عونا إلهيا خص الله به المسلم عن بقية خلقه لقصور الإنسان وضعفه ومحدودية أبعاده. ومن المضحك المبكي أن أفرادًا من الحركة الإسلامية لا يعرفون الاستخارة إلا عند زواج أحدهم، وكأن الخلاص الفردي أهمّ وأعظم من خلاص الأمة ونجاحها! فهل استخرنا الله حين جاملنا؟ وهل استخرنا حين جابهنا؟ وهل استخرنا حين غيَّرنا؟ولقد سعت أطراف عديدة إلى ضرب أو تهميش هذا التميز لقطاعات من الحركة الإسلامية في هذا الجانب وقبلت هذه الأخيرة السقوط في فخه بقصد أو بغير قصد. لقد خلطت الحركة الإسلامية بين التميز والانعزال فوقعت في الاضمحلال؛ حيث أضحى خطابها غير جديد ولا يحمل الفردية (originalité) اللازمة التي يحويها مشروعها بداهة، والتي تتجلى خاصة في جانبه العبادي الذي أكرمها الله به "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات-56) والتي تمثله عناصر التمكين الأربعة السالفة الذكر. لقد أدى التحزب وبشكل طبيعي إلى تعلق بعض الحركات الإسلامية بأهداب السياسة، وإلى تفشي ظاهرة التطلع إلى التمكين قبل الأوان، وإلى هيمنة السياسي على المجالات الأخرى. وأصبح التعويل على السلطان شفعة للتراخي وتبريرًا للفشل وتسرعًا في طي المراحل، ودفعًا للأفراد نحو الاستعداد لتحمل مسؤولية في واقع لم يستوف شروط نهوضه. واختلطت الأولويات، وأصبح التمكين غاية لدى هذا البعض لا وسيلة لتنزيل المشروع. وقد حدث قدر من الالتباس وسوء الفهملبعض النصوص لمنسوبة إلى الحديث النبوي. فمقولة: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" فهمها أصحابها على أنها تهميش للجانب القرآني التربوي والأخلاقي في دعوة التغيير ومنهجيته وتنزيله، وتضخيم للدور السلطاني الذي أُعطي الأولوية في التغيير في كل شيء، من أخلاق وتقاليد وحتى ضمائر! وتكاثُرُ الفرق السياسية الداعية لتغيير الشرعية في تاريخنا، يؤكد تمكّن هذا الفهم لديها واعتبارها بأن السياسي السلطاني هو الكافل بطي المراحل وإحداث التغيير بسرعة ولعله بنجاعة. ولم تخرج بعض قطاعات الحركة الإسلامية الحديثة عن هذا الفهم، وظنت أنه بإمكانها تغيير العقليات وإنزال مشروعها عبر منهجية السلطان المتسرعة، ومن التنزيل إلى التدشين! وهذا حسب رأينا وليد التحزب والفرقية التي تجعل من رسالة الإسلام بالأساس سياسية، وأن السياسي في تضخمه ينحو المنحى السلطاني. على عكس الأمة التي يملي تبنيها للمشروع غلبة المنحى القرآني المتدرج والمتأني والذي يجعل من رسالة الإسلام رسالة هداية، يكون السياسي والتربوي والأخلاقي والاقتصادي أدوات ووسائل لتحقيق هدف الهداية الذي هو أكبر وأهمّ. إن العودة إلى أصول التغيير المبثوثة في النص المقدس والفعل النبوي يُحمّل المشروع كل الأمة ولا يتركه لطرف منها، والحركة الإسلامية ليست ضمير هذه الأمة وجسمها الفاعل فحسب، فهذا تحجيم لها وتقزيم لدورها، بل هي الأمة في امتدادها وتنوعها وإيمانها ووعيها، وهو الذي رأيناه في رباعية التمكين المطلوبة منها والذي يجعل من تحزب الحركة الإسلامية البداية والنهاية لمشروعها. والله أعلم. "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (الأنعام: 160). يستطيع القارئ أن يلاحظ أن السلطة عمدت في بعض البقاع أن تخلط بين الإسلام والإسلام السياسي في ذهنية الفرد والمجموعة، وسعت إلى إبعاد الأول عن طريق ضرب الثاني، غير أن سعيها هذا لم يكتب له النجاح رغم أنها وُفّقت نسبيا في تهميش هذا الثاني. فرغم ما قاسته الحركة الإسلامية من نكبات وعواصر ومد جزر فإن الأمة بقيت وفية لدينها وعقيدتها وظلت ترفع شعار الانتساب إليه في العديد من طقوسه وأبعاده، وهذا ما يدعم الرهان على الأمة وينفي كل خيار سواها. قد لا تعد دراسة لؤي صافي "العقيدة والسياسة: معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية" بدعًا في بابها، وقد لا تكون خارجة -في تصورها العام للنظام السياسي الذي ينبغي أن تجري عليه الدولة الإسلامية- عن كثير من أطروحات رجالات الفكر السياسي الإسلامي أو بعض الحركات الإسلامية، ولكن الإضافة المعرفية الأهم التي تقدمها هذه الدراسة تتركز أساسا في تلك الرؤية التأصيلية والنظر المنهجي الذي لم تزل تفتقر إليه كثير من الدراسات التنظيرية التي تشتغل في هذا الحقل. تستهدف هذه الرؤية التأصيلية -عند لؤي صافي- إعادة النظر في الأسس العلمية التي انبنت عليها النظرية السياسية التراثية (أو الاتباعية كما يسميها)، ونقدها وتمحيصها، ثم تقديم أسس وأصول جديدة تستند إلى نوعين من المبادئ: مبادئ مستقاة من الوحي: قرآنا وسنة (باعتبارها محددا لمقاصد الفعل السياسي وضوابطه)، ومبادئ مستمدة من الخبرة التاريخية (لما تفيده في تعيين آليات تحقيق المقاصد وإعمال الضوابط). بل يمكن القول –دون مبالغة-: إن هذه الدراسة تستهدف أساسا نقد التراث السياسي الإسلامي وأصوله التي انبنى عليها، حتى إننا لا نكاد نلحظ في دراسته إشارة إلى الأدبيات السياسية الإسلامية المعاصرة، فيما عدا بضع إشارات يتركز معظمها حول رشيد رضا والمودودي، ولعل ذلك أيضا إنما يرجع إلى أنهما اعتمدا النظرية التراثية بحذافيرها، فهي التي أراد لؤي صافي خلخلة أصولها والحفر في جذورها. وإذا كان صافي واعيا -منذ البدء- باقتراب كثير من أطروحاته من النظريات السياسية الغربية، إلا أن مراهنته كانت قائمة على محاولة تأصيل هذه الأطروحات من خلال المصادر الأصلية للتشريع الإسلامي والخبرة التاريخية الإسلامية. وذلك كي لا يقع في ما أخذه على الأطروحات المعاصرة في النظام السياسي الإسلامي ومحاولات التوفيق أو التلفيق مع الفكر الغربي، من افتقار إلى العمق التأسيسي والتأصيلي، حيث تعتمد منهجا وظيفيا يحدد البنية السياسية من خلال الوظيفة التي تؤديها، دون اعتبار المقاصد التي توجه الفعل السياسي
--
كاتب المقال
دكتور في الحقوق والقانون العام
ورئيس مركزالجبهة للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية
ورئيس تحرير جريدة صوت المصريين الالكترونية
وعضو الاتحاد العربي للصحافة الالكترونية
ورئيس لجنتي الحريات والشئون القانونية بنقابة الصحفيين الالكترونية المصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.