أن منهجية التغيير تبدو مرتبطة في جانب منها بالنظرة الحزبية للتغيير. فوجود الأمة كحاملة للواء التغيير أو انحساره في مجموعة أو حزب، يمثلان حالتين منفصلتين، ومسارين مختلفين. فبقدر ما يساهم التحزب في زيادة سرعة وكثافة العمل، وطي المراحل، بقدر ما تراهن الأمة على النفس الطويل والمنهجية الهادئة. والحقيقة أنه على الرغم من وضوح مواقف العقائد والمذاهب، وتفهمنا لمبررات نشأتها عقيديًا وتاريخيًا، إلا أن التاريخ الإسلامي وحاضره لم يحسما شرعية منهجية التغيير التي ظلت مترنحة بين الموالاة والمواجهة، وبين المنازلة والمناصرة، وظل السؤال حول من المصيب ومن المخطئ مجلبة للاختلاف ولنشوء المدارس والفرق والمذاهب. وبمطالعة تاريخ الحركات السياسية والاجتماعية في التاريخ الإسلامي نجد أن الحاضر الإسلامي بقي مشدودًا إلى تاريخه غير المحسوم، ودون أخذ العبرة من مجريات التاريخ والأحداث، وبقيت الأسئلة مطروحة. ودفع عدم الحسم هذا إلى تبني منهجيات مختلفة ومتباينة من أطراف الأمة التي تشكلت في أحزاب وطوائف، والذي عمق لاحقا الفرقة بينها. على قطعة الفسيفساء هذه تشكلت الحركات الإسلامية الحديثة عبر واقعها الذي تنزل فيه الغامض والعنيف أحيانا، ومرجعيتها التاريخية المهتزة، وغلب على التحزب والفرقيَّة الدفع إلى منهجيات التغيير العنفي والمتسرع، وغابت الأمة.. حيَّدتها السلطة حتى يغيب العتاد والعدة، وهمَّشها قطاع عريض من الحركة الإسلامية؛ لأنه ظن أنه قادرًا على حمل التغيير والفوز بالسلطان، فهو الجيل الفريد، والنخبة الواعية والصفوة الفاعلة! إن الحركة الإسلامية التي نرتئيها ليست ذات لون واحد ولا فكرة واحدة، بل هي مجموعة رؤى وأفكار وممارسات، تجمع في صف واحد المعارض للسلطة والموافق لها، تشمل التحريري (نسبة إلى أنصار حزب التحرير) والتبليغي (نسبة إلى جماعة الدعوة والتبليغ) والصوفي والزيتوني (نسبة إلى جامعة الزيتونة)، والسني والشيعي، والموَكَّلين بالكتاتيب وأئمة المساجد وخطباء الجُمع، حتى إن كانوا يأخذون خطبهم من السُّلطات القائمة ويتغافلون عن ظلمها طمعًا في استمرار مسيرة الدعوة، وأعضاء هذه الحركة الإسلامية هم الجماهير، ومن يتبنى مشروع التمكين بلا مواربة، ومن لا يعرف من الإسلام سوى ركعات فرض تتبعها أحيانا ركيعات نوافل، أو من يعرف الله في رمضان وينساه فيما سواه، المصلي البسيط والصائم الأبسط والحاج المتقاعد، أو من يحمل في قلبه ذرة إيمان، وهم كثير. فالمشروع الإسلامي الذي يتبناه هذا الكلُّ الجامع ويُجمع عليه القاصي والداني منهم، بسيط في تعبيراته عميق في محتواه، وهو ما عنته آية التمكين من سورة الحج " الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" (الحج: 41)، والتي سبقته آية النصر والمؤازرة الغيبية له "وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز" (الحج:40)، وفي هذا أكثر من مغزى. وعناصر التمكين هذه التي تمثل برنامج التسيير والتنزيل في خطوطه العريضة، تُشكل أيضا عناصر مرحلة ما قبل التمكين، أي برنامج الأمة ومشروعها الذي تنادي به وتجتمع عليه. يقول ابن عاشور في تفسيره "فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأمّا إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم". وعندما يصبح برنامج هذا اللقاء الإسلامي خطوطا عريضة وواضحة فإنه يمكن له أن يؤلف بين فئات الأمة ويجمع شتاتها ، قال تعالى: "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال: 63). فهل يرفض التبليغي الأمر بالمعروف؟ وهل يخالف الصوفي النهي عن المنكر؟ وهل يعترض الزيتوني على إيتاء الزكاة؟ وهل يعاند إمام الخمس وخطيب الجمعة على إقام الصلاة؟وليس اعتباطًا أن كانت دعوات الأنبياء خطوطا عريضة وميسَّرة في السياسة والاقتصاد والاجتماع حتى تجمع الناس حولها. وهذه الخطوط العريضة لا تلغي الجانب التفصيلي والتجزيئي، ولكن هذا يمثل محطة أخرى ومرحلة ما بعد التمكين. فعلى الحركة الإسلامية حينئذ أن تبين أن الربا من المنكر وتأتي بالمعروف بديلا، وأن الخمر والزنا والغش والرشاوى رذيلة وتأتي بالفضيلة بديلاً، وهذا ليس صعبًا في تنزيله، ولا يواجه الأمة، بل يمثل توضيحا لخطوط سابقة تبنتها واصطحبتها، فهي صاحبة المشروع وتعلم بوعيها التقاء هذا الجزئي بالكلي، غير أنها تطلب تمكينها من البديل "الشرعي".ووجود هذا اللقاء الإسلامي الحامل للمشروع الإسلامي في خطوطه العريضة لا يلغي الاختلاف في الجزئي والتفصيلي، والذي يمكن أن تحمله داخل الفضاء الإسلامي مجموعات وأطراف، لكن دون المساس بالأصل الجامع تنظيما وخطابا. ولعل الآية الكريمة "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا" (الحجرات: 9) تؤكد على إمكانية وجود التعارض بين أصحاب المشروع الإسلامي داخل الفضاء الإسلامي، فالباغية منهم، والباغية عليها منهم، والمصلح منهم، وهو ليس عيبا،بل العيب يتمثل في مواجهة مجموعة للأخرى بدعوى وجود السياسي أو غيابه، أو أولوية الروحاني أو تهميشه. فالتعارض المقبول شرعا والمفهوم عقلا والآخذ بأسباب النجاح وسنن الاستخلاف يكون فقط داخل رباعية التمكين: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس خارجه. وقد أرادت قطاعات من الحركة الإسلامية أن تكون طرفا في الصراع، وذلك حسب فهمها واعتبارها من قصص الأنبياء ودعواتهم، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه الذين غالبا ما كانوا أقلية يواجهون مجتمعاتهم بأفكارهم الجديدة ويتصدون لبغيها. وكان النصر دائما حليفهم "واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِه" (يوسف: 21)؛ لأن يد الغيب راعية، والهدف هو الشهادة وإقامة الحجة على هذه الأقوام وتأكيد عدل الله فيهم. غير أن اليوم ليس بالبارحة. ومشروع الحركة الإسلامية لا يتنزل اليوم في مجتمع كافر وجاهلي لا يعرف الله ويشرك بعبادته، بل في أمة زاغ بعضها ونافق بعضها وخاف بعضها وآمن الكثير منها. ولذلك ليست دعوتها نسخة لدعوة الرسل لاختلاف الإطار مع وحدة الهدف. فهذا ليس مواجهة بين الكفر والإيمان وفصلاً بين الأمة والكفار، فالأمة الإسلامية هي جزء من الأمة المدنية التي تجمع كل الأطراف من عقائدية وسياسية متنوعة. فالشيوعي جزء من هذه الأمة المدنية وكذلك الليبرالي والمسيحي واليهودي، ولكل طرف الحق في التعبير عن آرائه في تسيير هذه الأمة (انظر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأنصار واليهود المقيمين، والمهاجرين الوافدين فيما اصطُلح عليه بدستور المدينة). ولم تقع مواجهة بين الأمة الإسلامية والأمة المدنية حتى نكث أحد أطراف هذه الأخيرة المعاهدة ، لذلك فلن يُسحب البساط ممن لا يجد نفسه ممثلا- ممن لا يتخذ الإسلام منهجًا في عناصر التمكين الأربعة وله أن ينادي بما يريد في إطار هذه الأمة المدنية التي تحميها قوانين وتعهدات وخطوط حمراء. والإسلام يستبشر بمن رضي دعوته ويقبل التعايش مع من رفضها "فَإِن تَوَلَّوا فَقُل حَسبَيَ اللهُ لاَ إَلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيهِ تَوَكَلتُ وَهوَ رَبُّ العَرشِ العَظِيم" (التوبة: 129). وهذا ما عايناه في الصدر الأول من الإسلام، ففي وصية الإمام علي إلى واليّه على مصر مالك الأشتر: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم.. فإنهم صنفان، إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".ويتميز هذا الخطاب بميزتين، فهو من ناحية خطاب عام وتجميعي وليس طائفي، يمثل مصالحة للجسم مع نفسه، وهو بالتالي يدعو إلى التقريب وليس إلى التشتيت، وهو من ناحية أخرى خطاب سهل وميسّر، يجعل منهجية التغيير هادئة والتمكُّن سلميا وتنزيل التمكين ذا مراحل ومحطات، لا يصدم ذهنية المجتمع ولا عاداته بل يغيرها بلطف وعلى المدى الطويل، لأن المجابهة وقسرية التنزيل لا تولد إلا جفاء وصدّا وردودا من الداخل والخارج يصعب التكهن بها ومواجهتها