ذكرنا في المقال السابق ملاحظتين حول منهج الدكتور سعد الهلالي في الفتوي، الأولى: أن المفتي خبير في علوم الشريعة، وليس وصيا ولا كاهنا، والثانية : هل يجوز عرض المسألة على العامة دون ترجيح؟ وفي هذا المقال نكمل الملاحظات:
الملاحظة الثالثة: عدم جواز العمل بالأقوال من غير نظر في الترجيح: الاختلاف من طبيعة البشر، وقد اختلف الصحابة في مسائل كثيرة، اختلفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بل اختلفوا في حياته، وأقر اختلافهم، كما في الحديث الصحيح: "لا يصلينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة ..." الحديث. ومسؤولية المفتي معرفة الخلاف، وتقديره حقَّ قدره، فمن لم يعرف الخلاف فليس بعالم ولا فقيه، بل لم تشم أنفه رائحة الفقه. وننبه هنا إلى أن معرفة الخلاف وحدها لا تكفي، دون معرفة الأدلة التي اعتمدوا عليها، ومناقشتها وترجيح أقوى الآراء وأصحها وأسلمها، وعرضها عرضًا سليمًا مُنصفًا.
والترجيح ليس مجرَّد نقل الأقوال، أو سرد الأدلة، والرد على ما يخالفها، ودفع الاعتراضات عنها، بل الترجيح عملية معقَّدة تحدث في ذهن المجتهد أو المفتي، يسترجع فيها ما في قلبه وعقله من علوم الآلة وعلوم الغاية. يقول ابن الصلاح: "واعلم أن من يكتفي بأن يكون في فتياه أو عمله موافقًا لقول أو وجه في المسألة، ويعمل بما يشاء من الأقوال أو الوجوه من غير نظر في الترجيح، ولا تقيُّد به؛ فقد جهل وخرق الإجماع، وسبيله سبيل الذي حكى عنه أبو الوليد الباجي المالكي من فقهاء أصحابه، أنه كان يقول: إن الذي لصديقي عليَّ إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه. وحكى عمن يثق به: أنه وقعت له واقعة وأفتى فيها وهو غائب جماعة من فقهائهم من أهل الصلاح بما يضره، فلما عاد سألهم فقالوا: ما علمنا أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه. قال: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز" [أدب المفتي والمستفتي ص 125].
وقال الشاطبي: (ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف؛ فإن له نظرا آخر، بل في غير ذلك، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع؛ فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها؟ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدًا، وما ليس بحجة حجة) [الموافقات (5/93)].
قال الامام ابن تيمية: "أجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح" [الفتاوى الكبرى (5/555)].
وقال ابن القيم: (لا يجوز للمفتي أن يعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح ولا يُعْتَد به، بل يكتفى في العمل بمجرد كون ذلك قولا قاله إمام أو وجها ذهب إليه جماعة، فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال، حيث رأي القول وَفْقَ إرادته وغرضه عمل به، فإرادته وغرضه هو المعيار وبهما الترجيح، وهذا حرام باتفاق الأمة). إلى أن قال: (وقد قال مالك رحمه الله في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم: مخطىء ومصيب، فعليك بالاجتهاد. وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتّشَهِّي والتخير وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرضَ مَنْ يٌحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر) [إعلام الموقعين (4/211)]. فقد حكى العلماء الإجماع عن عدم الأخذ بالرأي بدون النظر في الدليل.
رابعا: تتبع زلات العلماء:
إن من يسير على هذا النهج، يتتبع الرخص وزلات العلماء، وقد جاءت الأقوال الكثيرة تحذر وتحرم تتبع الرخص وزلات العلماء.
قال الإمام الشاطبي في: (زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بِها تقليدًا له، وذلك لأنَّها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عُدَّت زلة، وإلا فلو كانت معتدًّا بِها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنَّه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بِها، ولا ينتقص من أجلها". وقال الإمام الأوزاعى: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام. وقال يحيى القطان : لو أن رجلا عمل بكل رخصة؛ بقول أهل الكوفة في النبيذ، وقول أهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة لكان فاسقًا. وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم، وزلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله. وقال الإمام أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي: "دخلت على المعتضد، فدفع إلى كتابًا نظرت فيه، وكان قد جُمع له الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، مصنف هذا الكتاب زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث – (يقصد هنا آثار الصحابة والتابعين وتابعيهم) - على ما رُويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المُتعة، ومن أباح المتعة، لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب) [الموافقات (5/136)].
وقال الشاطبي أيضا عن زلات العلماء: "لا يصح اعتمادها خلافًا في المسائل الشرعية؛ لأنَّها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهادٌ، فهو لم يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوالُ الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوي أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا؛ فلذلك قيل: إنه لا يصح أنْ يُعتد بِها في الخلاف، كما لم يَعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء إتيان النساء في الأدبار، وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها" [الموافقات (5/139)].
خامسا: العمل بالقول الضعيف:
المذاهب الأربعة المعتمدة - بدون استثناء - لكل منها أئمة مجتهدون، ومجتهدو مذهب، ومقلدون متبصرون، ومقلدون ناقلون، ويرتب مرجحو كل مذهب أقوال المذهب حسب قائلها، ومرتبته في المذهب، ورجاحة نقلها عنه، وأدلتها إلى آخره. وقد جوَّز العلماء الأخذ بالقول الضعيف في المذهب لمصلحة، أو عند الضرورة والحاجة التي تُنزَّل منزلتها؛ بضوابط معلومة، وذلك لدفع مفسدة تعتبر شرعا، لا لجلب مصلحة؛ استنادا إلى أن الضرورات التي تبيح المحظورات، وجواز ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما. فقالوا: من ابتلي بشيء من الخلاف فليقلد رأي من أجاز، أو يكون هناك أدلة عن المفتي ترجح هذا القول الضعيف. والقول الضعيف في المذهب لا يعني زلات العلماء، فالقول الضعيف في كل مذهب في الغالب سيكون معتمدا في مذهب آخر.
قال ابن عابدين في شرح عقود رسم المفتي (1/50) : " وبه عُلِمَ أن المضطر له العمل بذلك لنفسه كما قلنا، وأن المفتي له الإفتاء به للمضطر، وينبغي أن يلحق بالضرورة -أيضًا- ما قدمناه من أنه لا يُفْتَى بكفر مسلم في كفره اختلافٌ، ولو رواية ضعيفة؛ فقد عدلوا عن الإفتاء بالصحيح؛ لأن الكفر شيء عظيم ".
وذكر السبكي في فتاويه (2/12): "أنه يجوز تقليد الوجه الضعيف في نفس الأمر بالنسبة للعمل في حق نفسه، لا الفتوى والحكم، فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز". واشترط المالكية ثلاث شروط: أن لا يكون القول المعمول به ضعيفا جدا، وان تثبت نسبته إلى قائل يقتدى به علما وورعا، وأن تكون الضرورة محققة.
وقال الدسوقي في حاشية على الدردير (4/130) : "أنَّ المفتي يجوز له العمل بغير الراجح من مذهب إمامه في خاصة نفسه للضرورة، ولا يفتي بذلك غيره، لأنه لا يتحقق الضرورة بالنسبة لغيره، كما يتحققها بالنسبة لنفسه، ولذلك سدوا الذريعة، وقالوا بمنع الفتوى بغير المشهور خوف ألا تكون الضرورة متحققة، لا لأجل أنه لا يعمل بالضعيف ولو تحققت الضرورة، قاله البناني، قال الدسوقي: يؤخذ من كلامه أنه يجوز للمفتي أن يفتي صديقه بغير المشهور إذا تحقق ضرورته، لأن شأن الصديق لا يخفى".
وقد قعَّد متأخرو الشافعية لذلك قاعدة: من ابتلي بشيء من الخلاف فليقلد رأي من أجاز. لكنهم وضعوا معها قاعدة: الخروج من الخلاف مستحب.
وإنما يكون ذلك في فتوى خاصة لا على العلن لجماهير الناس.