لم تكد فرحة العيد تنتهي، حتى كان العديد من قرى مصر وأسرها على موعد مع "الموت"، فقد رحل عشرات من الشباب والأطفال في عمر الزهور، رحلوا وهم يحلمون بعبور الحاجز المائي الذي لا يفصل بين أرضين .. بل يفصل واقعيا بين حضارتين.. و زمانين متباعدين.. يفصل بين القرون الوسطى والعصر الحديث، فالمسافة بين جنوب المتوسط وشماله ليست مجرد بضع مئات من الكيلو مترات، بل أربعة قرون من التقدم والحرية وحقوق الإنسان واحترام الآخر والمساواة وتكافؤ الفرض واحترام الخصوصية والحق في الرفاهية.. لقد رحل شبابنا المقتول فقرا وحاجة وحرمانا وضياعا .. رحلوا من واقع الألم إلى الحلم في رحلة هروب ظنوها قصيرة .. لكنهم هربوا حقيقة إلى الموت، ومن خلفهم دموع حارقة، وأمهات ثكلى، وأمنيات ضائعة، وأكباد محترقة، وبيوت محزنة، وذكريات قاتلة. لقد سقط جمع كبير منا في محنة الخوف من وعيد الشيطان بالفقر، وأغواهم الطمع في زينة الدنيا ”الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ“، ونسينا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم: ”والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبْسَط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوا فيها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم“..وشجع على ذلك انقلاب في موازين العدالة والمساواة وانخراط مجتمعنا في صراعات الفناء والشقاء، ونسياننا قيم البقاء والعطاء، حتى صار أمرنا إلى أن يلقي الآباء بأطفالهم ويلقي الشباب بأنفسهم طمعا في الدنيا، وجميعهم يمنون أنفسهم بالجنة الموعودة في الشمال الأوربي، لكن الآباء يعلمون أيضا أن أطفالهم ويعلم الشباب أنفسهم أن أمرهم قد يؤول إلى أن يكونوا قطع غيار بشرية، حيث تؤخذ أعضاء الفقراء وترمى ببقاياهم ليستمر نعيم الأغنياء ورفاهيتهم، أو أن يصيروا طعاما للأسماك في قاع البحر أو ينخرطوا في عصابات المخدرات وتهريب السلاح، وغيرها من المحرمات شرعا، المستقبحات عرفا. لكن ماذا يفعلون والغلاء يأكلنا، والفقر يداهمنا، والفساد تغلي مراجله، والغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا، وقد فقدنا الحب والمودة والصداقة والجمال، وأصبحت حياتنا مسرحية هزلية طويلة وفارغة ومأساوية تجسد رذائل الكبر والجشع، والتمييز والتمثيل، والفخر والصراع على دمى الحياة الدنيا وباطلها.. لقد ابتلينا بالصراع القاتل على المال، والجاه، والسلطة، والملذات فشبعت قلة حتى التخمة ولو أنها لا تشبع أبدا، وماتت أغلبية من الحرمان، على الرغم من توفر النعم للناس أجمعين بقدر متساو لو توفرت العدالة واعتدلنا في الاستمتاع بها، إذًا لأخذ كل منا ما يكفيه دون ما يطغيه، ولعاش الناس جميعا في سعادة وسلام. غرق عشرات من المصريين في "رحلة الموت" الشمالية، وفي العديد من القرى المصابة لا تسمع الآن إلا نداءات المساجد تعلن في رتابة حزينة وفجعة مؤلمة موعد وصول فلان إلى القبر، ليليه فلان ثم فلان.. جميعهم خرج يريد الحياة فأراده الموت .. خرج يريد الحلم فاقتنصته الفواجع.. في الأيام الماضية .. بات كثير من عائلات المصريين لياليهم على أرض الشاطيء البائس وأمام المستشفيات يجوبون أرض المشرحة وأمام أقسام الشرطة يستنجدون المسئولين .. ويبحثون عن الجثامين التي هربت إلى قاع البحر بعد أن شربت من وحل اليابسة .. لا أمل لديهم في حياة ذويهم، لكنها الحيرى التي لا تنهي عند هذا الحد، فليس ثمة جسد يواروه التراب، فهل هناك أشد حيرة أو أكلح بؤسا من بكاء جسد بعد بكاء روح، وحزن على غياب قبر الابن بعد التلظي بنار الألم على موته وفقده. إننا نعيش نسخة مكررة في مأساة "النداهة" في صورتها الأوربية الفاتنة؛ حيث يرى الشباب أقرانهم الصغار يستمتعون بالحياة .. يجلسون في الحدائق الغناء.. يركبون السيارات .. يلتقطون الصور مع الفاتنات.. يعانقون الجميلات .. يلبسون الجديد من الثياب.. يعيشون حياتهم في تحرر وإنجاز ويحققون الكثير من المال.. لا تسألني لماذا يكسب من يجني البطاطس في إيطاليا أو يقطف ثمر البطيخ في اليونان أو يقود شاحنة في بريطانيا أو يعمل نادلا في فرنسا الآلاف من الأموال ولا يجد من يفعل ذلك في مصر قوت يومه.. فأنا لا أفهم في الاقتصاد ولكني أشعر بالإنسانية. ينشر الناجون إلى أرض الحلم ”مقاطع الحياة“ على صفحات مواقع التواصل.. يراها الأقران كما يراها الآباء والأمهات بما فيها من جمال وحياة .. وما فيها من معرة ومعصية ورذيلة وعري.. دون خوف من الله ودون حياء من الناس.. ولكن الأثر النفسي يستمر، فتستعر النيران في قلوب المحرومين والطامعين والمقهورين، فهم يطمحون إلى الحياة .. إلى المال .. إلى النساء .. إلى الرفاهية، وساعتها يتردد الجواب في كل وجه: "ينعيش .. ينموت.. وهي موتة واحدة.. محدش بيموت ناقص عمر".. إنها مشكلة فجة تعري جشع مجتمعنا، وحيوانية القادرين من بيننا، وتوضح انعكاس أولوياتنا المجتمعية والأسرية والدعوية.. فالمجتمع يعلم حاجة الأغلبية ولكن الشركات المصاصة للدماء لا تتوقف عن الإعلانات والسرف ومجاملة الأثرياء من الفنانين واللاعبين بدلا من ترخيص السلع وتقليل هذه الإعلانات.. ومن جانب آخر، تَعْلم العائلات انحراف أغلب أبنائها.. تعلم شربهم الخمر، ومضاجعتهم النساء، وعملهم في الحرام، ولكن هذا الانحراف محتمل مقبول في مقابل حفنة الدولارات السخية.. يقطع هؤلاء الشباب مسار تعليمهم.. يتركون بلادهم وأسرهم طمعا في دنيا جديدة ووطن جديد يمنح الحياة التي حرموا منها، فأين الولاء وأين الدين وأين الوطن.. هل عرتنا هذه المشكلة؟ لنعلم أننا نشتاق إلى الحياة شوقا يفوق أشواق الإيمان؟ ونطمع في الدنيا طمعا يفوق الجنة؟ ونعمل لها فوق عملنا بطاعة الله؟ هل عرت زيفنا وقابليتنا للتنازل والانحراف حيثما وجدت بيئة صالحة لذلك؟ تتقطع أوصال الأسر.. تتعالى صيحات الفقر ووخذات العوذ.. يتهددنا صراع المال، يدفعنا جشع التنافس، ورغبة التملك، وآفة التفاخر والتكاثر، لكن لا تجد من كتابنا ومفكرينا ومنظرينا وإعلاميينا وأئمة مساجدنا ومدرسينا ومسئولينا عناية تأخذ بيد الأغلبية المطحونة في غلبها وجهلها وقهرها، أو تجد من يضع حلا لمواجهة مشكلاتها أو ينزل إلى واقع ناسها ويختلط بمعضلات حياتها ومعاناتها، بل تلمس الإهمال والغفلة والكبر والجهل في لوم الفقراء على الفقر ولوم البؤساء على البؤس ولوم المحرومين على الحرمان بل لوم الموتى على الموت بعد سرقة حقهم في الحلم والحياة. رحلة الموت التي فجعتنا هذه الأيام لن تكون الأخيرة، إلا إذا كان هناك قرار بتغيير هرم القيم الاجتماعية بشكل حقيقي وفاعل يعمل على تصعيد واقعي لمبادئ الأخلاق والعلم وتفعيل جاد لقيم المساواة والعدالة وإصلاح حقيقي لمنظومة المجتمع بتغيير منظورنا للثروة والسلطة والجاه والمحسوبية، وما يتصل بها من ممارسات، وإلا فالجميع خاسرون. تعازينا القلبية لأهالينا الثكالى ودعواتنا المخلصة لضحايانا المظلومين.
Dr. Muhammad Fawzy AbdelHay, Ph.D. Assistant Professor of Islamic Studies in English Faculty of Languages and Translation Al-Azhar University, Cairo