أثار الحكم الصادر ضد د. أيمن نور زعيم حزب الغد الشاب بالسجن المشدد ل 5 سنوات ردود فعل صاخبة خارج مصر خاصة في أمريكا بصدور تصريحات فورية تدين الحكم لأنه يفتقد إلى المعايير القانونية والشفافية ولأنه تصفية حسابات سياسية ، بينما لم تتفاعل بعد النخب السياسية والفكرية مع قضية أيمن نور طوال محاكمته . كنت كلما التقيت بمواطنين عاديين مهمومين يصرحون لي متهمين النخبة بأنها تخلت عن ايمن نور ويطالبون بتعاطف أكبر ، كان معظم هؤلاء من الشباب . وكنت أحاسب نفسي طويلا وأتساءل : هل تخلت النخبة فعلا عن أيمن نور ؟ ولماذا هذا الصمت المريب ؟ وهل أخطأت أنا شخصيا أو أخطأ الإخوان في موقفهم ، وهل كان موقف " الجبهة الوطنية للتغيير " سديدا عندما لم يصر د. عزيز صدقي منسق الجبهة ورموزها الكبار على ضم حزب الغد إلى الجبهة كغيره من القوى السياسية الأخرى إرضاء لطرف استضاف الجبهة في مقره ؟ ، وهل الشكوك التي ساورت النخبة السياسية حول مشروع أيمن نور أو طموحه الزائد أو شبابه المتدفق كانت صحيحة أو لا قرائن ؟ . نفس هذا الموقف تكرر سابقا مع رمز أكثر وضوحا وهو الأستاذ الأكاديمي والناشط الحقوقي أ.د سعد الدين إبراهيم ، أستاذ الجامعة الأمريكية الأشهر في علم الاجتماع السياسي ، الذي عانى نفس المعاناة وصدر ضده حكم أقسى ( 7 سنوات ) من نفس القاضي ( المستشار عادل عبد السلام جمعة ) ، فقد تخلى عنه معظم مجلس أمناء مركز ابن خلدون ونهشت سمعته أقلام مشهورة ولم يجد سندا إلا من عدد قليل في مصر ، وجاء السند الأكبر من أمريكا أيضا فخرج من السجن بعد أكثر من سنة ونصف بعد أن تدهورت صحته ومازال يعاني آثار ذلك ، لكنه لم يفقد تفاؤله وأمله ولم يتقاعد عن النشاط بل ازداد إصرارا على العمل والسفر والمشاركة ، وها هو نور يعاني صحيا أيضا خاصة بعد إضرابه عن الطعام . كنت كتبت في " الحياة " حول قضية د. سعد بعنوان " سعد الدين إبراهيم .. سؤال العدالة " وها أنذا اليوم أكتب حول أيمن نور .. ومحنة النخب العربية ، خاصة الليبراليين منهم . أشعر بتعاطف إنساني كبير مع كل من يتعرض لمحنة السجن ، معه شخصيا ومع أسرته أيضا ذلك لأني قضيت على مدار 25 سنة في ثلاث مرات ست سنوات ونصف خلف الأسوار ، وأعرف معنى السجن على أسرة السجين السياسي بالذات . كما أشعر بتعاطف سياسي مع حزب الغد الوليد الذي خرج برفضه من لجنة الأحزاب ثم إذا به اليوم يتعرض لمحن متتالية ، ليس فقط غياب مؤسسه وزعيمه خلف الأسوار ولكن فقدان أي مقعد برلماني وكذلك الانشقاق الذي حدث ويثير الريب والشكوك ، فقد نشرت الأهرام صبيحة الحكم على أيمن نور خبرا ملاصقا حول اختيار زعيم المنشقين رئيسا لحزب الغد ، مما يؤكد صدقية الشك الذي ساور الكثيرين حول من خلف الانشقاق ؟ . هنا يأتي السؤال الأول والمحنة الأولى ، بخلاف محنة نور الشخصية ، لماذا يلجأ سياسي إلى تزوير توكيلات ؟ ( إن صحت التهمة كما أثبتها الحكم ، والحكم عنوان الحقيقة حتى يتم نقضه أمام محكمة النقض ) . وإذا كان هدف السياسي هو إقامة حزب سياسي ، فلماذا تضطره السلطات إلى التزوير والتحايل للحصول على رخصة حزب ؟ وهل إقامة حزب تعني التربح والتكسب حتى يكون التزوير سبيلا إليه ؟ وإذا كان نور قد حصل على أكثر من 500 ألف صوت في انتخابات الرئاسة ، وجاء وصيفا للرئيس مبارك فهل كان يعجزه الحصول على ألف توكيل سليم دون تزوير ؟ . هناك محنة سياسية كبرى ، وهي وضع العقبات بعد العقبات في وجه كل من يريد إنشاء حزب سياسي ، ثم تأتي الطامة الأكبر، وهي : إنك إن حصلت على رخصة حزب فلست بمأمن من التلاعب والانتهازية السياسية والالتواء الذي يؤدي إلى اختطاف الحزب . ففي مصر المحروسة أكثر من عشرين حزبا ، منهم 4 أحزاب معروفة وأكثر من 7 أحزاب لا يعرفهم أحد ، والباقي مجمد بسبب الانشقاقات وليس الاختلافات ، وفي البلاد الديمقراطية يؤدي الانشقاق إلى إضافة أحزاب جديدة وليس تجميد الأحزاب . هل يعلم القارئ أن كل صاحب رخصة حزب ( باستثناء 5 أحزاب تقريبا ) يحصل سنويا على مائة ألف جنيه إعانة ، وأحدهم طالب مؤخرا كي ينشط حزبه ( وهو من آخر الأحزاب نشأة ) الحصول على 5 ملايين جنيه سنويا ثم يحاسبه الشعب على نشاط الحزب . وهل هناك بلد في العالم أعطى منافسي الرئيس الذين ترشحوا ضده نصف مليون جنيه لحملة الدعاية ، ولا أدري إن كان الجهاز المركزي للمحاسبات المكلف قانونا بمتابعة إنفاق هذه الملايين الأربعة قد أعلن كشف الحساب أم أن الأمر لم يتعد استلام المبالغ وكل شيء في بئر ينسى بعد حين ؟ . لماذا نصيب الناس باليأس والإحباط من التعددية الحزبية والنشاط السياسي ؟ هل ذلك يصب في صالح برنامج الرئيس مبارك للإصلاح ؟ أم أن هناك من يعمل ضد الرئيس شخصيا ؟ . لم يتعاطف مع نور سوى الأخ / محمد عبد القدوس ولجنة الحريات بنقابة الصحفيين ولجنة سجناء الرأي التي يترأسها والتي أعلنت عن مظاهرة احتجاجية ضد الحكم صبيحة صدوره ، بينما صمتت نقابة المحامين وصمتت الصحف الحزبية ومعظم الصحف المستقلة ، حتى البرامج الحوارية في القنوات الفضائية المستقلة تجنبت إظهار التعاطف وتعاملت مع الموضوع بحيادية بالغة . هل يخشى هؤلاء على أنفسهم بمنطق : علمني رأس الذئب الطائر . ولماذا ينسى هؤلاء الحكمة العظيمة : أكلت يوم أكل الثور الأبيض ؟ وهل يفيدنا الصمت ؟ ولماذا لا نطالب بإنهاء كل المحاكمات الاستثنائية وإطلاق سراح القضاء المصري بإصدار قانون السلطة القضائية الذي أعده نادي القضاة بحيث يطمئن الناس جميعا إلى أن الحكم هو عنوان الحقيقة فعلا ، والسؤال الحائر: هل يدفع نور ثمن معارضته بالداخل أم ثمن ارتباطاته بالخارج ؟ . لا يوجد تهديد حقيقي لنظام الرئيس مبارك اللهم إلا من هيجان شعبي لا يريده الجميع لأنه لن يبقى ولا يذر ، فستكون ثورة الجياع والمحرومين الذين سيطيحون بكل النخب الحاكمة والمعارضة ، وسيتدخل الجيش لضبط الأمور وإعادة الاستقرار وندور في حلقة مفرغة من جديد ، وهذا الذي لا يريده العقلاء في كل التيارات المعارضة وفي مقدمتها الإخوان . والذي يريده الجميع أن يعلن الرئيس تفاصيل برنامجه الإصلاحي كاملا والبرنامج الزمني له وتدخل التيارات الرئيسية في حوار وطني جاد يقود إلى وفاق وطني عام يؤدي إلى إنقاذ البلاد من الركود السياسي والاقتصادي والاجتماعي بحيث ندخل فورا في " مرحلة انتقال " لمدة 3 – 5 سنوات تأتي بعدها انتخابات حرة نزيهة تماما بعد إطلاق الحريات في تشكيل الأحزاب وحرية التعبير والعمل الأهلي والنشاط النقابي ... إلخ . وسؤال آخر : هل نفعت أمريكا من تحالفت معه ؟ أم هل تحالفت بالفعل مع أحد حتى يكون مصدرا للخطر على الأمن القومي للبلاد ؟ لماذا نفتقد الشفافية ؟ ولماذا يتم البطش بكل من تلتقي بهم رموز الإدارة الأمريكية وينشطون في الساحة بقوة ؟ . هناك أخيرا ، أزمة النخب وأزمة الليبراليين بالذات ، أزمتهم مع نفوسهم ومع مجتمعاتهم ومع نظرائهم ومع حلفائهم . أزمتهم مع شعوب تستند إلى مرجعية ثقافية فيها أكبر قدر من احترام كرامة الإنسان " ولقد كرمنا بني آدم " وأكبر قدر من المساواة " كلكم لآدم وآدم من تراب " و " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى "، وأكبر قدر من الحرية " لا إكراه في الدين " ، بينما يعيدون هم تجارب الاشتراكيين والقوميين الذين اغتربوا عن أمتهم فكان الحصاد المر طوال القرن الماضي كله في تجارب فاشلة مازلنا نجني ثمارها المرة ، فهل يستفيد أيمن نور في سجنه مع تأملاته خلف أسوار السجن ؟ ، وهل يستفيد الذين يعيشون خلف أسوار النفس والوطن ؟ .