* توصيات التقارير واللجان الدولية بالاصلاح الاقتصادى والسياسى والديمقراطية وكان الغطاء الاخر الذى تصاعد فى ظله التدخل كان ترشيد الاداء الاقتصادى وضبط الموازنة وتطوير الادارة ، وبالتاكيد كانت الدول الاجنبية فى مرحلة معينة تهدف الى تحقيق ذلك ، ولكن بأى معنى ؟ اثبت التاريخ فى هذا الموضوع ، كما اثبت فى قضية الديمقراطية ، ان هذه الاساليب لم تكن مفاهيم مجردة او محايدة ، وانما قصد بها منذ البداية خدمة اهداف محددة : فتحطيم السلطة الاستبدادية كان يعنى مشاركة ثم قيادة الدول الاستعمارية – وعلى رأسها انجلترا – لهذه السلطة ، وترشيد الاداء الاقتصادى كان يعنى ترتيب الاوضاع على النحو الذى يضمن انتظام التبعية ، ويضمن بالتالى انتظام انسياب الموارد المصرية الى الخارج ، او تنظيم عملية النهب . ولم تكن لدى السلطات المصرية وعلى راسها الخديوى اى اوهام حول هذا الموضوع ، كان الخديوى اسماعيل على الدوام مهتما بالاستعانة بالخبراء الاجانب فى جميع مصالح الدولة ، ولكنه كان يصر دائما على ان يكونوا مسؤلين امامه ولا يتلقوا اوامرهم من حكوماتهم او يقدموا اليها اية تقارير . على ان الحكومتين البريطانية والفرنسية كانتا تميلان الى اعتبار هؤلاء الخبراء ، ولو جزئيا على الاقل ، عملاء لهما ، وكانتا تريان انه لكى يكون عملهم فعالا ، فمن الضرورى حمايتهم من الضغوط التى يتعرضون لها بسبب ميول الخديوى (الاستبدادية ) ومعنى ذلك رغبة هاتين الحكومتين فى استخدام هؤلاء الخبراء كوسيلة لفرض السياسة البريطانية والفرنسية . وكان اسماعيل يدرك ذلك
وكجزء من عملية الترشيد لم تقتصر مهمة الخبراء وهيئات الرقابة الاجنبية على حصر الموارد بشكل أكفاء ، ولم تقتصر المهمة على ضمان تدفق مدفوعات خدمة الدين ، فقد كان طبيعيا ان تمتد المهمة الى ضمان استمرار النهب فى المدى البعيد ، ويتطلب ذلك تحديد سقف لما يمكن استنزافه ، ولو ادى هذا الى بعض التناقض مع المصالح الانية لبعض الدائنين ، عملا بمقولة : قليل دائم خير من كثير منقطع ، وقد عبر عن هذا المعنى بوضوح فيفيان (القنصل البريطانى) حيث كتب الى حكومته انه (من الاهمية بمكان ان يتولى المراقبان – يقصد المراقب الانجليزى والفرنسى فى الرقابة الثنائية – حماية الفلاحين كما يحميان حملة السندات والمقرضين الاجانب اصحاب الديون ، ومنع قتل الاوزة التى تبيض ذهبا ) وقد تسأل كرومر فى الاتجاه نفسه ، وعلى نحو اكثر ديناميكية ( اليس ممكنا استخدام مصالح اصحاب السندات كوسيلة ضغط لتحسين (لترشيد) الادارة المصرية بحيث تحفظ نصيبا للفلاحين من ناحية ، ونتمكن فى الوقت نفسه من تقديم ضمان كاف للمقرضين الاجانب بسداد الالتزامات المالية الجديدة ايا كان مقدارها ) وبعد ان خلع اسماعيل ، وتولى توفيق اجبر الخديوى الجديد (توفيق) على تعيين مراقبين احدهما بريطانى والاخر فرنسى ومنحهما من السلطات ما يكفى لاعادة بعض النظام الى المالية المصرية وتحقيق مصالح اصحاب الديون ، واعلن انه لايجوز للحكومة المصرية عزل المراقبين دون موافقة دوليتهما ، وبهذا اضحت الرقابة الثنائية رقابة دولية من الناحية الرسمية وتم التوصل بعد ذلك الى ماعرف بقانون التصفية فى عام 1880 وفى هذا القانون روعى مبدأ عدم ذبح الاوزة وخفضت نسبة الفائدة الى 4% بدلا من 7% وهكذا ادرك الاجانب ان الفوائد التى كانوا يتمسكون بها تحد من مقدرة البلاد المالية التى من الممكن ان تؤثر بالكامل على انتاجيتها لذلك عملوا على عدم ذبح الاوزه وتقليل الاعباء عليها بعد ما ضمنوا الامساك بعنقها وادارة شؤنها بعد الاحتلال .. فقد انتهت مرحلة الاغراق فى الديون ، وبدأت مرحلة الترشيد لجنى الثمار بشكل مستقر ، وتقول التقديرات ان اجمالى الديون الخارجية كان يقل عن 100 مليون جنيه ، ولم تنتفع مصر منها فى شكل مشروعات باكثر من خمسين مليونا فى احسن الاحوال ، وذهب الباقى هباء فى عمولات او تبذير من جانب اسماعيل .... وبفضل الادارة الرشيدة على يد الخبراء تقاضى الاستعمار مقابل الخمسين مليونا هذه اربحا وفوائد وصل مجموعها الى 250 مليون جنيه . دخول الاحتلال الانجليزى سيطر الاجانب على مصر ونتيجة لتدهور الاوضاع وسؤها تدخلت الدوله العثمانيه سنة 1879 وعزلت الخديوى اسماعيل لتسببه فى سوء احوال البلاد وعينت بدلا منه ابنه محمد توفيق باشا خديوى لمصر . ولم يطمئن الغرب ويكتفوا بما فعلوه فى البلاد وسيطرتهم على اقواتها وتعيين رجالهم فى الوزارة المصريه واستعمال العملاء مثل نوبار باشا على رئاسة مجلس النظار (الوزراء) ، ارسلت انجلترا جيوشها واسطولها الى مصر واعلنت انها غير مطمئنة على اموال رعاياها التى اقرضوها للحكومه المصريه وان الجالية الاجنبيه لا تأمن فى ظل تردى الاوضاع فى مصر خاصة بعد تذمر الضباط العرابيين اعتراضا على التدخل فى شؤن مصر وتدهور اوضاعها ولما كانت هذا التذمر من الجيش لما لحق بالبلاد فان هذه الحركات والثورات من قبل الجيش قد تعرض سلامة الجاليات الاجنبيه فى مصر والاموال التى اقرضوها للحكومة المصرية للخطر وعلى ذلك فان انجلترا قد رأت ان تضمن حقوق واموال هذه الجاليات وتامن لهم ذلك بتواجدها فى مصر للحيلوله ضد قيام اى انقلاب او حركة من الجيش المصرى تؤثر على ضمان هذه الاموال او تؤثر على سلامة رعاياها . ..
وهكذا دخل الاحتلال الانجليزى مصر 1882 بسبب الديون الأجنبية وبحجة حماية أموال وممتلكات الرعايا الأجانب . لتدخل مصر مرحله جديده فى تاريخها سيطر فيها الاجانب على مقدرات البلاد ، واصبحت مصر مزرعة القطن الشهيرة وفتحت الاسواق امام استيراد منتجات الدول الغربية وعلى راسها انجلترا وشهدت الوقوف بحزم ضد اى محاولة للتنمية الصناعية الجادة . ولابد من التذكير بقول كرومر الشهير فى هذا المجال (كرومر هو الحاكم العسكرى لمصر بعد الاحتلال ) : ( من يقارن الحالة الراهنة بالحالة التى كانت منذ 15 سنة ، يرى فرقا ضخما ، فالشوارع التى كانت مكتظة بدكاكين ارباب الصناعات والحرف من غزالين وخياطين وصباغين وخيامين وصانعى احذية .. قد اصبحت مزدحمة بالقهاوى والدكاكين المليئة بالبضائع الاوربية ، اما الصانع المصرى ، فقد تضاءل شأنه ، وانحطت كفايته على مر الزمن ، وفسد لديه الذوق الفنى الذى طالما اخرج فى العصر القديم المعجزات فى مذاخر الصناعة) وقد شملت الهيمنة الاجنبية بعد الاحتلال الانجليزى (ادوار الانتاج والتوزيع جميعا وكثر المشتركون فيه فصاروا يعدون بمئات الالاف بعد ان كان عددهم لايزيد على بضع مئات ، اول حكم محمد على وقد تعمد الأحتلال القضاء على كل ما من شأنه أن يعود ببعض التقدم الصناعى فأهملت الصناعة ولم تتخذ التدابير الكفيلة برقيها ، بل ألغيت البعثات الصناعية إلى الخارج وفرضت فى أبريل عام 1901 ضريبة على جميع المصنوعات القطنيه فى مصر مقدارها 8% وبالاضافة الى سياسة فرض الضرائب على المنسوجات الوطنية وغيرها ، كان رؤساء المصالح الحكومية من الأنجليز يؤثرون السلع البريطانية ويفضلونها على السلع المصرية ، ومن بين العوامل التى أدت إلى أنهيار الصناعة أيضاً أن أصحاب رؤوس الأموال من المصريين فضلوا أستثمار مدخراتهم فى أستصلاح الاراضى وفى الزراعة وصور اللود كرومر فى تقريره عن عام 1905 تدهور الصناعة هذا وكتب يقول " إن المنسوجت الأوربية حلت محل المنسوجات الوطنية ، وبإنقراض المنسوجات الوطنية أخذت الصناعة الأهلية تنقرض أيضاً " ، والنتيجة التى تخرج بها من هذا العرض هى أنه بأنتقال السلطة الى يد الانجليز تم توجيه الاقتصاد المصرى لخدمة المجتمع الغربى وظل المجتمع المصرى محتفظاً بطابعه الزراعى فترة غير قصيرة . واصبح النشاط الاقتصادى يتركز فى يد العناصر الاجنبيه التى تموله وتشرف عليه وتنهض بشؤنه جميعا فيما عدا الاعمال البسيطة التى لايكون جلب من يقوم بها مكلفا واصبح المصرييون يشعرون بضألة الدور الذى يقومون به فى ميدان هذه الصناعات وينفسون على هؤلاء الاغراب حياتهم الانيقة ، ويرون فى نشاطهم الصناعى والتجارى وارباحه السريعة ابتزازا لكدهم ومالهم ليس بعده ابتزاز حتى دخلت مصر القرن العشرين وهيا ترضخ تحت الاموال الاجنبيه التى كانت تمثل اكثر من 90% من الاقتصاد المصرى فى بداية القرن العشرين . والهدف من هذا المقال هو الاستفاده من دروس الماضى حتى لاتتكرر وتقع مصر فى فخ الديون الاجنبيه مره اخرى .