لا يفوت الانقلاب فرصة في ظل انهيار الاقتصاد للاقتراض من الخارج، حتى إن خبراء الاقتصاد أكدوا أن مصر استقرت في طريقها تحت سيطرة دول هذه الديون التي ستدفع الأجيال القادمة ثمنها من حريتهم كما دفع سلفهم من الأجيال الحالية، بعد تراجع موارد النقد الأجنبي، وانخفاض احتياطي هذا النقد إلى الحدود الدنيا، وتوجه الحكومة لتمويل مشروعات محطات الكهرباء، وزيادة معدلات الإنفاق على التسليح الشرطي لمواجهة المعارضين، وتراجع الدعمين الخليجي والدولي. ومع توضيح بيانات البنك المركزي المصري أن الدين الخارجي قفز من 35 مليار دولار في يونيو/حزيران 2011 إلى ما يزيد على 50 مليار دولار نهاية 2015.
كما تظهر بيانات البنك المركزي أن أعباء الدين الخارجي لمصر قفزت من 2.7 مليار دولار في 2011 إلى 5.6 مليارات دولار، أي أن الأعباء تضاعفت خلال فترة المقارنة، وهو ما يظهر طبيعة الزيادة في حجم الدين الأصلي.
ويقول خبراء الاقتصاد إن الأموال التي حصل عليها الانقلاب في نهاية أبريل 2015 تحت مسمى ودائع لدول خليجية بالبنك المركزي المصري لدعم احتياطي النقد الأجنبي، فهذه الأموال مودعة بشروط هي أقرب للقروض منها للودائع، فهناك تحديد لأزمنة استرداد هذه الودائع، ثم تكلفة تمويلها التي تصل إلى 2.5%، في حين أن هذه الدول قدمت في عام 2013 ودائع بمبالغ أكبر لصالح البنك المركزي بفترات سماح وشروط سداد أفضل، فضلا عن سعر فائدة صفر.
وإذا أردنا تقويما حقيقيا للدين الخارجي فإن علينا أن نقدر التزامات مصر في السداد، والتي تتضمن على أقل تقدير الودائع الخليجية الأخيرة والمقدرة بنحو 6.8 مليارات دولار، لتتجاوز قيمة الدين الخارجي 54 مليار دولار، قابلة للزيادة في ضوء توجهات الحكومة للاقتراض من الخارج خلال الفترة المقبلة.
مخاطر الاقتراض الخارجي
وتتجه حكومة الانقلاب إلى الاقتراض تحت وطأة الحاجة للإنفاق الجاري، وليس الإنفاق الاستثماري، مما سيجعل من القروض الخارجية إضافة جديدة لأعباء الدين، الأمر الذي ينذر بكارثة دخول مصر مرة أخرى تحت سيطرة الدول المدينة كما حدث في عهد الخديوي إسماعيل الذي أكهل مصر بالديون نظرا لإفراطه في الإنفاق، ثم عجزت حكومته عن سداد هذه الديون، الأمر الذي انتهى بتشكيل صندوق الدين والوقوع تحت سيطرة الدول المدينة ثم الاحتلال الأجنبي.
وقد كانت وما زالت مشكلة مصر في ملف الدين العام أن حكومات العسكر المتعاقبة لا تمتلك برنامجا زمنيا لسداد تلك الديون، والوصول بها إلى الحدود المسموح بها وفق المعايير الدولية، وهي ألا يتجاوز الدين العام -المحلي والخارجي- نسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي.
فما تعتمده كل حكومات العسكر هو آلية استهلاك وإحلال الديون، فتقوم بالاقتراض لسداد ديون قديمة حل أجلها، ثم تضيف جزءا من الديون لتمويل احتياجات آنية، وبذلك يلاحظ أن منحنى الدين العام بمصر في تصاعد مستمر، حتى تجاوز الدين المحلي تريليوني جنيه مصري في نهاية يونيو2015 بينما تجاوز الدين الخارجي 48 مليار دولار في نفس التاريخ، ثم قفز الدين العام بمعدلات أكبر مما هي عليه الآن بنهاية ديسمبر 2015.
ومن هنا فإن قضية الدين العام مرشحة لمزيد من التفاقم، فظلالها شديدة السلبية اقتصاديا واجتماعيا على واقع المجتمع المصري في ظل عدم توجيه الإيرادات العامة نحو الاستثمار وتمويل قطاعات الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وبنية أساسية، في الوقت الذي لا تمتلك مصر هيئات رقابية يمكنها محاسبة الحكومة على ما تحصل عليه من قروض، سواء عن السبب الداعي للاقتراض، أو الجهات التي يتم الإنفاق عليها من تلك القروض، لتصبح مصر مهددة مرة أخرة بسيناريو الخديوي إسماعيل.
صندوق الدين في عهد الخديوي
أسس صندوق الدين فى مصر كلجنة دولية بمقتضى مرسوم أصدره الخديوى إسماعيل فى 2 مايو 1876، للإشراف على سداد الحكومة المصرية ديونها للحكومات الأوروبية التى تراكمت فى عهد الخديوى إسماعيل، بدأ الصندوق برئاسة ثلاثة مفوضين يمثلون حكومات النمسا والمجر وفرنسا وإيطاليا، وبعد عام انضمت لهم بريطانيا.
جاء تشكيل صندوق الدين استجابة لمطالب الدائنين الفرنسيين كخزانة فرعية للخزانة العامة تتولى تسلم المبالغ المخصصة للديون من المصالح الحكومية والمحافظات مثل ضرائب الدخان وضرائب الملح وإيراد الأطيان من الدائرة السنية ورسوم الكبارى وعائد الملاحة فى النيل وغيرها.
ويعتبر هذا الصندوق أول هيئة رسمية أوروبية أنشئت لغرض فرض التدخل فى شئون مصر وهو بمثابة حكومة أجنبية داخل الحكومة المصرية.
فى 7 مايو 1876 أصدر الخديو مرسوماً بتحويل ديون مصر وديون الدائرة السنية إلى دين واحد سمى بالدين الموحد قدره 91 مليون جنيه إنجليزى بفائدة 7٪ يسدد على 65 سنة وتسمت الديون إلى ديون طويلة الأجل وأخرى قصيرة الأجل واستبدال هذه الديون بالسندات مقابل إطالة مدد سدادها.
ولكى يطمئن الدائنون على حسن إدارة وزارة المالية أصدر الخديوى فى 11 مايو 1876 مرسوماً ثالثا بانشاء مجلس أعلى للمالية يتكون من عشرة أعضاء خسمة منهم أجانب وخمسة وطنيين ورئيس يعينه الخديوى ويختص المجلس بمراقبة خزائن الحكومة، وقسم آخر لمراقبة الإيرادات والمصروفات والثالث يحقق الحسابات وقد عين السنيور "شالويا" أحد أعضاء مجلس الشيوخ الإيطالى أول رئيس للمجلس الأعلى للمالية، وعينت فرنسا المسيو "دى بلنيير" مندوباً عنها واختارت النمسا "فون كريمر" مندوباً لها وإيطاليا اختارت السنيور برافللى مندوبا لها وامتنعت بريطانيا عن تعيين مندوب لها طمعاً فى فرض نظام أقوى من ذلك يتيح لها التدخل المباشر فى شئون مصر ليجعل مصر أكثر خضوعاً لها.
وقضى مرسوم 18 نوفمبر سنة 1876 بفرض الرقابة الأجنبية على المالية المصرية ، وأن يتولاها رقيبان (مراقبان ) بوظيفة " مفتشين عموميين " ، أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي فالأول لمراقبة الإيرادات العامة للحكومة ، ويسمي مفتش الإيرادات ، والثاني لمراقبة المصروفات ، ويسمى مفتش الحسابات والدين العمومي (مادة 7 من المرسوم) ، وتختار الحكومتان الإنجليزية والفرنسية الرقيبين المذكورين.
ووظيفة رقيب الإيرادات كما تنص المادة 8 هي تحصيل جميع إيرادات الحكومة ، وتوريدها للخزائن المخصصة لها ، وله السلطة على مأموري التحصيل جميعهم ، ما عدا مأموري تحصيل الرسوم القضائية في المحاكم المختلطة وهو الذي يرشحهم لوظائفهم ويوقفهم وله أن من يشاء منهم بعد تصديق (اللجنة المالية) وهي لجنة مؤلفة من وزير المالية ومن الرقيبين الأجنبيين، أي أن الكلمة فيها لهذين العضوين.
أما رقيب المصروفات ( أو مفتش الحسابات والدين العمومي ) فوظيفته ملاحظة تنفيذ القوانين واللوائح المتعلقة بالدين العام ، وتفتيش حسابات الخزانة، وجميع صناديق الحكومة ، وليس لنظار الدواوين ( الوزراء ) ورؤساء المصالح أن يأمروا بصرف الأذون والتحاويل الصادرة منهم إلا بعد التأشير عليها من الرقيب، وله أن يعترض على صرف أي مبلغ يراه قد تجاوز المربوط في الميزانية ويترتب عليه عدم القيان بالمصروفات الأخرى المقررة في الميزانية.
ويقوم رقيب المصروفات بوظيفة مستشار مالي بوزارة المالية (مادة 9) ومن هنا جاء منصب المستشار المالي الذي انفرد به الإنجليز بعد الاحتلال، وللرقيبين الاشتراك في تحضير ميزانية الحكومة السنوية (مادة 10). وكفلت كلمات "الاشتراك" و "الاستشارة" في هذا الصدد السيطرة على مقدرات مصر المالية.
وتقضى المادة (11) بأن جميع الاتفاقات التي يترتب عليها إنفاق مبلغ تزيد قيمته عن واحد من 12 من أصل المربوط السنوي للميزانية ، أو تستلزم إنفاق مبلغ على جملة سنوات يجب الإقرار عليها من اللجنة المالية المتقدم ذكرها.
إدارة صندوق الدين
وقضت المادة 6 من مرسوم 18 نوفمبر سنة 1876 المتقدم ذكره أن الإيرادات المخصصة لصندوق الدين بمقتضى مرسوم 7 مايو سنة 1876 ، تبقي مخصصة له ، ويبقى صندوق الدين هيئة دائمة إلي أن يسدد كامل الدين العام ( مادة 18 ) ، ولأعضائه أن يتسلموا الإيرادات المخصصة لاستهلاك الدين ، ويرسلوها رأساً إلي بنكي إنجلتراوفرنسا، ويكون تعيين أعضاء صندوق الدين بناء على طلب حكوماتهم.
لجنة مختلطة لإدارة السكك الحديدية وميناء الإسكندرية
واسند المرسوم إدارة السكك الحديدية وميناء الإسكندرية، وهي التي رهنت إيراداتها لوفاء فوائد الدين الممتاز ، إلي لجنة مختلطة مؤلفة من خمس مديرين، منهم اثنان إنجليزيان واثنان مصريان وواحد فرنسي ، ويكون أحد المديرين الإنجليز رئيساً للجنة (مادة 23 ) ، أي أن الغالبية والرياسة للعنصر الأوربي ، ويتولى المديرون إدارة السكك الحديدية والميناء ، ولهم السلطة العليا على موظفيها ، وعليهم تسليم جميع إيراداتها إلي صندوق الدين.
وعملاً بهذا المرسوم عين الرقيبين الأوربيان ، وهما المستر رومين Romaine رقيباً (مراقباً) إنجليزياً على الإيرادات والبارون دي مالاريه De Malaret رقيباً فرنسياً على المصروفات ، وعين الماجور إفلن بانج Baring (اللورد كرومر) عضوا إنجليزياً في صندوق الدين ، والمسيو دي بلنيير عضواً فرنسياً ، وبقي المندوب النمسوي والإيطالي المعينان من قبل وهما فون كريمر Kremer ، والسنيور بار فللي Baravelli، وعين الجنرال ماريوت Marriott الإنجليزي رئيساً لقومسيون (لجنة) السكك الحديدية وميناء الإسكندرية.
ثم جاء بعد هذا الصندوق الاحتلال المباشر لمصر من قبل الإنجليز والذي استمر مأكثر من سبعين عاما، الأمر الذي يبشر به قائد الانقلاب بجعل مصر تحت الوصاية الاجنبية والخليجية بسبب هذه الديون التي كسر بها ظهر مصر لقرون مقبلة.