من لم يعرف ما هو التنظيم الطليعى ودوره الخطير فى تاريخ مصر الحديث سيكون عليه قضاء وقتا طويلاً حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من قصة الإصلاح فى مصر.. ومن المهم هنا أولاً أن نشير إلى أن هناك بالفعل كتابًا أصدرته الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2013م اسمه (خراب مصر) كتبه باحث إنجليزى اسمه (ويلفرد بلنت) عام 1910م .. كان معروفًا عنه مساندته للثورة العرابية يتناول الكتاب تاريخ مصر منذ عهد الخديو إسماعيل ويكشف بالوثائق المؤامرات الأوروبية وقضية الديون الخارجية والاحتلال البريطانى لمصر خلال ثمانية وعشرين عاماً من عام 1882 حتى عام 1910.. الكتاب ترجمه شاب من شباب الحزب الوطنى القديم اسمه على أحمد شكرى وصدر فى الترجمة العربية باسم (تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطانى وبعده).. كل هذا فى جانب وما أحدثه (التنظيم الطليعى) من خراب حقيقى فى مصر وعلى مستويات وأصعدة عديدة سياسيًا وإداريًا وأخلاقيًا فى جانب آخر تمامًا ذلك أن آثاره ممتدة وموصولة حتى يومنا هذا.. وموضوع التنظيم السرى داخل الأجهزة السياسية أو حتى داخل الكيانات السياسية والحزبية من أسوأ وأخس وأحقر ما يمكن أن يكون.. وبالفعل فأنت لو تتبعت أى قراءة للتنظيمات السرية بأنواعها كما ذكرت قبلا.. ستجد أن من يقف وراءها من البشر يتصفون بهذه الصفات بأوفر ما يكون الاتصاف.. والمهم أنهم لا يكفوا عن إعلان سمو أفعالهم وخلوها من أى دوافع خبيثة وأنهم ما يفعلون ذلك إلا للحفاظ على الوطن أو على الفكرة (كل على ليلاه) وهذا بالطبع يختلف عن التنظيمات العسكرية الوطنية(السرية) وقت الاحتلال وتوطين العصابات الصهيونية فى فلسطين.. وسنقرأ الآن عن التنظيم الطليعى السرى الذى أنشاه البكباشى ج ح.عبد الناصر عام 1963م داخل الأجهزة الإدارية والسياسية والأمنية ما يدلل بكل بساطة ووضوح على أن هدفه الأساسى من وراء إنشاؤه هو الحفاظ على السلطة فى قبضة يديه والتحكم فى أعناق البشر من حوله لا غير.. انقضى زمن الثورة وجاء زمن الدولة ثم زمن سيد الدولة. التنظيم الطليعى أو التنظيم السرى أو طليعة الاشتراكيين نشأ من بدايته تنظيمًا مستقلاً عن الاتحاد الاشتراكي.. حاول البكباشى ج ح عبد الناصر الجمع فيه بين العناصر الأكثر تنافرًا واختلافًا أيديولوجيًا وفكريًا ولم يكن يجمعها سوى الارتباط به هو شخصيًا (الزعيم) الذروة التى تتقطع دونها الأعناق.. وما ذكره د.مصطفى الفقى فى المصرى اليوم الأربعاء الماضى 3/8 والذى أزاح فيه الغطاء عن تلك البالوعة ما هو إلا قدر ضئيل للغاية من حقيقة ما كان يحدث ويجرى أو إن شئت قل ما كان يسمح له به موقعه التنظيمى من المعرفة والاطلاع أقرأ تلك السطور من مقاله (..لأجد نفسى وأنا الطالب الجامعى ابن الحادية والعشرين وجهًا لوجه مع الرجل الذى أرى صورته فى الصحف باعتباره زعيم الجناح اليسارى فى العصر الناصرى والأقرب إلى القيادة السوفيتية والذى يعاديه جناح آخر من التيار اليمينى الذى يقوده عضو مجلس قيادة الثورة البارز والأخطر والأقوى السيد زكريا محيى الدين مدعومًا بتيار فكرى يقترب من السياسة الغربية حينذاك ويمثله الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل وكانوا جميعًا قريبين من عبدالناصر الذى كان يستخدم مراكز القوى مستغلًا صراعها فى إحداث التوازن فى مواجهة الجيش الموالى بشدة لقائده العام عبدالحكيم عامر لقد كانت سنوات مشهودة فى منتصف الستينيات بعد سقوط دولة الوحدة مع سوريا وتورط مصر فى حرب اليمن والاقتراب من شبح نكسة 1967) انتهى كلام د.الفقى الذى رضع من ثدى التنظيم الطليعى من بواكير بواكير طفولته السياسية والفكرية ونمى وبلغ واشتد فى حضنه ورعايته حتى وصل إلى منصب مدير مكتب حسنى مبارك للمعلومات وهو حريص على أن يبدوا فى الحياة العامة بنزعة قومية عروبية.. وأدعوك ألا تقف كثيرًا عند ما ذكره عن البكباشى وعن استغلاله لصراعات مراكز القوى لمواجهة صديق عمره فخر أفخار العسكرية المصرية المشير عامر وأدعوك أيضًا ألا تقف كثيرًا عند إشارته الرقيقة الحنونة إلى سوريا واليمن وهزيمة 67 وكل هذه الفواجع الفاجعة.. كما ادعوك أيضًا ألا تعود إلى كتاب(خراب مصر) الذى ذكرته فى أول المقال ..!! فيما تميد الأرض بالجميع ومن تحتها تخرج وحوش ترعرت فى الخفاء. من هم الثلاثة الأثافى الذين جلسوا مع البكباشى فى صبيحة يوم أعتم ليقرروا وضع الأسس الأولى لخراب مصر؟: الأستاذ هيكل الصديق الحميم واللسان البليغ وعلى صبرى الذى كان من الصف الثانى فى الضباط الأحرار واستخدمه البكباشى لتحجيم كل أعضاء مجلس قيادة الثورة من زملائه ورفاقه وينهى مشاغباتهم المزعجة ومطالبتهم المتكررة له بتحقيق أهداف الثورة.. وسامى شرف أخلص الخلصاء والسكرتير الشخصى للبكباشى والذى أبلغ المباحث العامة عن شقيقيه (طارق وعز الدين) بعلاقتهما بجماعة الإخوان المسلمين.. وأحمد فؤاد الماركسى والابن البار لتنظيم حدتو(أحط التنظيمات الماركسية).. ورئيس بنك مصر. ولأن عبد الناصر كان رجل تنظيمات سرية بامتياز.. فقد أراد لهذا التنظيم أن يكون سريًا تمامًا لحماية أعضائه أولاً وحتى لا يستغل أحد موقعه لمصالحه الذاتية ثانيًا.. وهو افتراض وهمى لأنهم كلهم بالفعل كانوا يفتقدون للضمير الأخلاقى الذى يحصنهم من استغلال مواقعهم لمصالحهم الذاتية.. وأثبتت الأيام بالفعل أنهم كانوا لا ينتمون للوطن كانوا فقط ينتمون لأنفسهم وطموحاتهم فى المال والنفوذ والهيمنة.. كانت كتابة التقارير السرية هى أهم نشاط أعضاء التنظيم الطليعى فلائحة التنظيم نصت على ذلك صراحة (على العضو أن يتقدم بالتقارير عن أى شخص مهما كانت قامته ومعلومات تجمع عن أى شيء مهما كانت قيمته) هل تشم رائحة ا.هيكل فى هذا الكلام ..؟ كانت هناك ثلاث مجموعات كبيرة داخل التنظيم الطليعي: الماركسيون الذين أفرج عنهم فى أواخر عام 1964م والذين أثبتوا عبر تاريخ مصر الحديث أنهم من كانوا من أعدى أعداء الدين والوطن والشعب.. ثم من بعض القوميين العرب.؟؟ والمجموعة الثالثة هى مجموعة الرواد الذين تم تكليفهم ببناء منظمة الشباب عام 1965 فى هذه المنظمة التليدة.. وعلى رأسهم أمين الشباب فى التنظيم د.حسين كامل بهاء الدين مدرس طب الأطفال وقتها والذى شغل منصب وزير التعليم فى جمهورية مبارك من 1991-2004م .. وحين تتواصل قراءتك لما حدث فى مصر من خراب على أيدى البكباشى وتنظيمه الطليعى ستسمع عن أسماء كثيرة خدمت كل السلاطين فى كل العهود وليس أدل على ذلك الخراب من الثلاثة عشر عامًا التى قضى فيها الراحل حسين كامل بهاء الدين (والدته كانت فرنسية) على المدرسة والمدرس والتلميذ.. ستسمع بالطبع عن الراحل أسامة الباز الذى سلمه السادات نائبه حسنى مبارك.. وعن رفعت المحجوب وحسن أبوباشا وفتحى سرور وصفوت الشريف.. والمئات من الأسماء التى شكلت طبقة كاملة للتوارث فى السلطة وأدواتها المهيمنة الكاسرة.. ستتمكن هذه الطبقة من تحويل الدولة إلى مطية تركبها لتفسد وتخرب كل شىء.. ستجد أن هذه الطبقة تحتفظ بتماسكها وقوتها وتوالدها ونمائها وأن إصلاح مصر من خرابها لن يكون أبدًا فى وجود هذه الطبقة.. واقرأ مذكرات وزير العدل الأسبق عصام حسونة(1965-1968م) لتكتشف ما فعله البكباشى وصبيانه فيقول فى صفحة193 م من سيرته الذاتية(شهادتى) أن عبد الناصر قال له : إن شعراوى جمعة قد شكل تنظيمًا طليعيًا سريا من ضباط الشرطة المؤمنين بالثورة وكذلك فعل شمس بدران فى القوات المسلحة فلماذا لا تفعل ذلك فى القضاء وفوجئت بهذا الاقتراح ورأيت فيه تناقضًا مع كلام الرئيس معى فى أول لقاء... كان التنظيم أداة تجسس ضخمة من أهم أهدافها كتابة التقارير عن كل شيء وكانت التقارير ترفع إلى أمين التنظيم الطليعى شعراوى جمعة الذى كان أيضًا وزيرًا للداخلية.. امتد نشاط التنظيم الطليعى إلى المكونات الصلبة للدولة واستخدمت كل الطرق المتاحة والمباحة وغير المباحة لتقوية أطرافه التنظيمية.. التى تنتهى خيوطها الحاكمة فى قبضة البكباشى ج .ح.عبد الناصر.. فشل البكباشى ونظامه فى إقامة نظامًا سياسيًا صلبًا حازمًا يستطيع أن يكون أقوى من الأفراد ويستمر بعد رحيله ورحيلهم.. وأسس وأقام (الخراب العام) الذى استشرى فى الأرض والبشر والشجر والحجر. عالم مضى .. ولكن أثاره وأفراده مازالت فاعلة.. ومفعولاً بهم أيضًا.