التنظيم الطليعي السري أنشأه الرئيس عبد الناصر بغرض تجنيد العناصر الصالحة للقيادة وتنظيم جهودها وتطوير الحوافز الثورية للجماهير. وقد أشرف على بناء التنظيم الأستاذ هيكل الصديق واللسان البليغ للزعيم، وعلي صبري الذى استطاع أن يحجم كل أعضاء مجلس قيادة الثورة وينهى مشاغباتهم المزعجة، وسامي شرف أخلص الخلصاء والسكرتير الشخصى، وأحمد فؤاد الماركسى والابن البار لتنظيم حدتو.. سنعرف مفاجأة غريبة وهو أن زكريا محيى الدين حاول أن يضمن التنظيم عددًا من الإخوان المسجونين وقتها، والمفاجأة الأوقع أنهم حاولوا مع الأستاذ سيد قطب محاولات لا تنقطع بتوصية ثقيلة من عبد الناصر نفسه وعبثًا ذهبت تلك المحاولات.. وكان عبد الناصر على استعداد أن يجلس مع من يوافق ويوجه له الدعوة بنفسه للانضمام لهذا التنظيم، وهو ما فعله مع المرحوم عبد العزيز كامل الذى سلمه أمانة الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي ثم وزيرًا للأوقاف.. كانت فكرة عبد الناصر من إنشاء التنظيم الطليعى تدور حول إيجاد تنظيم منضبط يسيطر عليه فى قبضة يديه.. يحكم به الدولة وتتواصل أجياله فى منظومة الحكم.. ولأن عبد الناصر كان رجل تنظيمات سرية بامتياز.. فأراد لهذا التنظيم أن يكون سريًا تمامًا.. لحماية أعضائه أولاً وحتى لا يستغل أحد موقعه لمصالحه الذاتية ثانيًا. كانت كتابة التقارير السرية هي أهم نشاط أعضاء التنظيم الطليعى، فلائحة التنظيم نصت على ذلك صراحة على العضو (أن يتقدم بالتقارير عن أى شخص مهما كانت قامته، ومعلومات تجمع عن أى شيء مهما كانت قيمته)، كانت هناك ثلاث مجموعات كبيرة داخل التنظيم الطليعي: الماركسيون الذين أفرج عنهم في أواخر عام 1964م، وقد رأينا تلاميذهم فى مواجهة الدكتور علاء عبد العزيز فى وزارة الثقافة، ثم من القوميين العرب. والمجموعة الثالثة هى مجموعة الرواد الذين تم تكليفهم ببناء منظمة الشباب عام 1965، ستسمع عن أسماء لا تقل شهرة عن أسامة الباز ومصطفى الفقى وعبد الغفار شكر فى هذه المنظمة التليدة. كان التنظيم أداة تجسس ضخمة من أهم أهدافها كتابة التقارير عن كل شيء، وكانت التقارير ترفع إلى أمين التنظيم الطليعي شعراوي جمعة الذى كان أيضًا وزيرًا للداخلية.. سيلفت نظرك النعى الضخم الذى كتبه زكى بدر وزير الداخلية الأسبق فى رثاء شعراوى جمعة عند وفاته فى الثمانينيات، ونشر فى الأهرام.. ولن تجد صعوبة فى تتبع الامتداد الذى نشير إليه، خاصة فى جهاز من أخطر الأجهزة المركزية للدولة (الشرطة). امتد نشاط التنظيم الطليعى إلى المكونات الصلبة للدولة (الشرطة، القضاء، الجيش)، واستخدمت كل الطرق المتاحة والمباحة وغير المباحة لتقوية أطرافه التنظيمية.. التى تنتهى خيوطها الحاكمة فى قبضة رئيس الجمهورية.. أصبح التنظيم الطليعى (الذى سيراودك كل أنواع الهول والذهول حين تعرف أسماء أعضائه لتعرف هول ما كنا فيه وما نحن مقبلون عليه).. أصبح هذا التنظيم هو الأب الشرعى لما عرف واشتهر فى أدبيات ما بعد ثورة يناير بالدولة العميقة. سيصبح هذا المصطلح فى وعيك ووعى أولادك من بعدك مقترنًا بالفساد والاستبداد والنهب والانحطاط والخسة والكذب والخوف والقهر والتهديد والإذعان والهروب والتدليس والهزيمة. والدولة العميقة هى التى تتغلغل بشكل محكم فى مفاصل الدولة ولا تدور رحى الدولة بغير إذن النافذين فيها.. الذين هم فى حقيقة الأمر (ضامنو عدم سقوط النظام أبدًا حتى لو اعتقد الشعب اعتقادًا راسخًا أنهم أسقطوه)، كما يقول الباحث الفرنسى لوى ريمون. سقوط النظام إذن كان مستحيلاً. فيما يبدو!!.. ما حدث فقط هو (اختفاء النظام من سطح الشاشة).. فقط من سطح الشاشة.. والخطأ الكبير الذى وقع فيه الجميع هو اعتبار النظام والدولة العميقة شيئًا واحدًا، بينما يباعد بينهما ما يباعد السطح عن العمق. علينا إذن أن ننتبه إلى أن هناك إعادة توصيل تتم على قدم وساق لشبكات النظام السابق بطبيعته وسياساته.. تتم الآن محاولات ثقيلة لتقوية الدولة العميقة.. (الامتداد التاريخى للتنظيم الطليعى الذى كان الأستاذ هيكل أحد أهم الشخصيات التى أشرفت على ولادته ورعايته وتغذية أوصاله).. وهو الذى كان له دور بارز فى أحداث 30/6 تخطيطًا وإشرافًا. ما يحدث الآن هو استعادة كاملة لدولة 23 يوليو بكل مكوناتها وحمولتها وامتداداتها، وهدم اللبنات الأولى لدولة 25 يناير بكل شهدائها وأحلامها وآمالها. أعدوا لأحلامكم قهوة تمنع النوم!! كما قال محمود درويش شاعرنا الذى رحل.