"الدولة العميقة".. مصطلح شاع استخدامه إعلاميا بعد ثورة 25 يناير للدلالة على بقايا رموز النظام الذى قامت ضده الثورة الشعبية فى الجهاز الإدارى للدولة ودواوين الوزارات والهيئات الحكومية، والتحالفات بين أفراد ومؤسسات نافذة منذ عهد المخلوع، وتتحين الفرص لإعادة نظامه بشكل أو بآخر، وتمثل جيوبا له تعمل فى الخفاء والعلن للحفاظ على مصالحها المضادة بطبيعتها للثورة، وهى تتركز بشكل بارز فى المؤسسات الأمنية والقضائية والثقافية والإعلامية. وتعود تلك الجيوب للتنظيم الطليعى السرى الذى أنشأه عبد الناصر فى مطلع الستينيات -ويحتفل الصهاينة هذه الأيام بهزيمته النكراء فى حرب يونيو 67- وأوكل الإشراف عليه لدجال الصحافة محمد حسنين هيكل وآخرون، ووصل أعضاؤه إلى عشرات الآلاف، وكان يهدف للاختراق والرقابة والسيطرة على كافة مفاصل الدولة، وتعرضت عناصر هذا التنظيم لضربة لم تقض عليها فى عهد السادات، حيث ظلت مؤثرة ومتواجدة، وفى عهد المخلوع نشطت بقوة فى خدمة نظامه وعادت إلى مواقعها، ولا تزال بقاياها سرطانات متناثرة فى العديد من المؤسسات، ولا سيما الثقافية والصحفية. وترسيخا لمواقع وأقدام زبانية النظام الفاسد السابق، وممارسة لسياسة الإقصاء التى كانت متبعة فى المؤسسات الثقافية الرسمية للمثقفين والمفكرين والمبدعين من خارج "الحظيرة الثقافية"، كان تشكيل وزراء الثقافة المتعاقبين للمجلس الأعلى للثقافة وسائر المؤسسات الثقافية من شخصيات أراقت الكثير من ماء وجهها مرارا، دفاعا عن ممارسات النظام السابق، ما يعد تكريسا لأجواء الشللية التى ظلت جاثمة على الوزارة على مدى ربع قرن. وقد دفع هذا الانحراف عددا كبيرا من المثقفين فى عهد وزير الثقافة السابق شاكر عبد الحميد أيام المجلس العسكرى إلى إصدار بيان ضد استمرار الفساد فى الوزارة وسيطرة جماعات الضغط والجيتوهات، ومطالبة الموقعين بإقالة جميع رؤساء الهيئات الثقافية ومنح الفرصة لأجيال جديدة من المفكرين والنقاد والمبدعين، وإعادة تشكيل المجلس الأعلى للثقافة بما يضمن تمثيلا عادلا للصوت الجديد فى الثقافة المصرية، وحل جميع اللجان بالمجلس وإعادة تشكيلها بعد استبعاد كل من قضى أكثر من دورتين فى عضوية أى لجنة، وتعديل كافة القوانين المتعلقة بجوائز الدولة وقواعد منحها. وكان كاتب هذه السطور قد كتب مقالين فى هذه الصحيفة، فى نقد هذا الوزير بشكل خاص، أولهما كان بعنوان: "جائزة زايد للكتاب ..معضلة المثقف والسلطة (11 / 3 / 2012)، وثانيهما: "وزير الثقافة .. كلاكيت ثانى مرة !" (18 / 3 / 2012) بمناسبة فوز الوزير الأديب الأريب المريب بجائزة زايد للفنون، وحصوله على 750 ألف درهم إماراتى (أى ما يعادل 1.5مليون جنيه مصرى تقريبا) بالإضافة لميدالية ذهبية، وهو فى منصبه الوزارى، ما يثير شبهات وروائح كريهة للمجاملة والتربح بالمنصب، ولا أدل على ذلك من تعيين هذا الوزير د.سعيد توفيق رئيسا للمجلس الأعلى للثقافة، وذلك بعد اختياره عضوا فى لجنة جائزة الشيخ زايد التى منحت الوزير الجائزة! وقد توالى على منصب وزير الثقافة، منذ اندلاع ثورة يناير 6 شخصيات، بدأت بجابر عصفور، مرورا بمحمد عبد المنعم الصاوى، وعماد أبو غازى، وشاكر عبد الحميد، ومحمد صابر عرب، وصولا إلى الوزير الحالى علاء عبد العزيز، وأربعة من هؤلاء الوزراء الستة هم امتداد طبيعى للتنظيم الطليعى الذى تطور لاحقا فى القطاع الثقافى إلى "الحظيرة" التى أشرف على إنشائها ورعاية المثقفين فيها فاروق حسنى وزير ثقافة حسنى المخلوع لنحو ربع قرن، حيث حظى الأربعة بمناصب بارزة فى القطاع الثقافى فى هذا العهد. ولم يبرأ من هذا "التلوث الطليعى" إلا وزيران محترمان، هما محمد عبد المنعم الصاوى (وهو لا يمت للإخوان بصلة) فهو ابن وزير الثقافة الراحل فى عهد السادات، وصاحب ساقية الصاوى الثقافية الشهيرة، ورئيس لجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشعب السابق، ولأنه خارج دائرة التنظيم الطليعى الثقافى، فقد قوبل تعيينه منهم بحملة شرسة تمثلت فى إصدار بيانات تعارض تعيينه، وبعد تعيينه تلتها بيانات أخرى ووقفات احتجاجية تطالب بإقالته، ولاقى الرجل الأمرين من رفاقه الليبراليين، ولم يصمد أمام حملاتهم الدنيئة سوى تسعة أيام فقط فى منصبه الوزارى، وأعلن استقالته من وكر الأفاعى قائلا: "شعرت خلالها أنى محارب فى جبهة قتال، ولن أبالغ إذا قلت إن ضغط دمى ارتفع عندما علمت من خلال الأوراق والمستندات فى الوزارة أن فاروق حسنى كان يشترى رضا المثقفين والإعلاميين بمناصب استشارية يدفع رواتبها من أموال الشعب، وكانوا يتصرفون على اعتبار أنهم مستمرون فى مناصبهم وأنه لا يوم للحساب"( جريدة الأخبار 10 / 3 / 2011)! أما الوزير الآخر غير الإخوانى أيضا، ولكنه لم يتخرج من عباءة التنظيم الطليعى والحظيرة الفاروقية، فهو الوزير الحالى د.علاء عبد العزيز -الأستاذ بمعهد السينما- حيث يتكرر معه الآن ما حدث مع سلفه الصاوى غير الطليعى، فما إن بدأ ممارسة مهامه واختصاصاته باختيار رؤساء الهيئات المعاونة له فى أداء مهامه ممن يرى أنهم أجدر، أو أنظف، وإبعاد البعض الآخر وهم فى أغلبهم "منتدبون ومستشارون"، محاولا تفكيك بعض أركان الدولة العميقة فى الوزارة، فأثار حفيظة مثقفى الغبرة الذين كانوا خاضعين خانعين فى حظيرة فاروق حسنى، قانعين بمبدأ سيف المعز وذهبه.. وقد هبروا من هذا الذهب الكثير، من جوائز وطباعة كتب ودواوين وروايات لا يقرأها أحد، وعضويات لجان ومناصب استشارية وتنفيذية بمبالغ مستفزة، واستناموا كثيرا فى الحظيرة، حتى أخذوا الآن حبوب الشجاعة، ويطالبون من خلال وقفات احتجاجية وصراخ عويل عبر فضائيات وصحف الفتنة بإقالة وزير للثقافة جاء لتنظيف الوزارة من هذا الركام. أين كان مثقفو الحظيرة حين احترق أكثر من 40 أديبا ومثقفا فى قصر ثقافة بنى سويف .. لماذا لم نسمع لهم صوتا ولا همسا، ولم يقفوا وقفات احتجاجية للمطالبة بإقالة فاروق حسنى بل وحسنى أيضا، وعلى طريقة شهد شاهد من أهلها، يكفى للدلالة على مخازى هؤلاء المثقفين الطفيليين وبصحبتهم ممثلون ومخرجون، هذا المقال للكاتب اليسارى عبد النبى فرج بعنوان: "حال الثقافة المصرية .. جريمة وزير" والمنشور فى أشهر المواقع اليسارية العلمانية "الحوار المتمدن" -23 / 8 / 2011- ومما جاء فيه: "رغم الفضائح التى تتوالى فى قطاعات الدولة المختلفة من فساد وثراء غير مشروع وسرقات فاضحة يحتاج فيها النائب العام إلى ماكينات تحقيق لكى تنجز المهمة الموكولة بها فى النهب المنظم لثروات مصر من قيادات كبيرة وصغيرة، يظل قطاع الثقافة هو الوحيد الذى لم يظهر بعد كمّ الفساد والعطن، ولا أعلم لماذا لم تلق الصحافة الضوء على الفساد فى وزارة الثقافة، وأذرع الديناصور التى لا تترك شاردة أو واردة إلا وغرست مخالبها فى أدق تفاصيله". ويتساءل الكاتب اليسارى فى الموقع اليسارى: "هل للدور الذى لعبه الوزير فى تكميم الصحفيين علاقة بالمثل المشهور "أطعم الفم تستحى العين". لاحظ أن الصحفيين المتخصصين فى الصفحات الثقافية "متسكنين" مباشرة فى هيئة قصور الثقافة وهيئة الكتاب وباقى أذرع وزارة الثقافة، هل يستقيم الأمر أن يكون مسئولو الصفحات الثقافية: يسرى حسان فى مسرحنا، يسرى السيد فى جريدة مصر المحروسة التافهة الذى استقدم من خلالها الصحفى يسرى كل أصدقائه ورؤسائه فى جريدة الجمهورية ليستكتبهم ثم يبكى الآن على حالنا، وعمرو رضا رئيس تحرير الثقافة الجديدة، وأسامة عفيفى للنشر، ومكافآت مهولة للصحفيين للمعارضين منهم قبل الموالين من خلال احتفاليات الهيئة التى لا تنتهى، وقد نشر بعض الموظفين فى الهيئة فضائح تخص هيئة قصور الثقافة، وما زال السيد أحمد مجاهد متربعا على عرش الهيئة مستفيدا من الثورة، كما كان مستفيدا من الفسدة والفاسدين فى النظام السابق، وليس أحمد مجاهد فقط بل كل القيادات ظلت كما هى". ويوجه الكاتب اليسارى تساؤلاته للوزير حينها عماد أبو غازى: ".. هل وزير الثقافة عنده من الشجاعة إعادة الاعتبار للقيمة والإبداع الحقيقى وتحجيم جماعات الضغط من صحفيين ومسئولى صفحات الثقافية وكائنات هلامية بلا قيمة تسعى فى مؤسسات مصر كالجراد تأكل بنهم ما تطوله أسنانها الحديدية، والفساد للشوشة مش للركب، كيف تقوم ثورة والأسماء والوجوه الثقافية القبيحة الذى استفادت من منظومة الفساد فى مصر تظل هى هى، هى المسئولة وهى الواجهة وهى الفاعل الأساس فى مصر المستقبل"؟! وحينما جاء وزير الثقافة الحالى لتحجيم جماعات الضغط التى طالب بها هذا الكاتب اليسارى فى الموقع اليسارى، هاج وماج رفاقه اليساريون، ونصبوا سيرك الاحتجاجات والاعتصامات، وكل شريف فى هذا الوطن مدين لهذا الوزير الشجاع بدعم مواقفه الهادفة إلى تطهير الحياة الثقافية المصرية من الفساد والمحاسيب والانعتاق من خفافيش التنظيم الطليعى والحظيرة الفاروقية!