الانفجار المعرفي الهائل الذي تمخض عن ثورة الاتصالات والمعلومات لم يدع شأنا من شئون الحياة إلا وغير فيه وقلبه رأسا على عقب. واستخدام مصطلح الانفجار ربما يكون هو الوحيد المناسب لوصف هذه الحالة الفريدة التي وصل إليها عالمنا المعاصر الذي أخذ يقفز ويحلق عاليا، منطلقا إلى آفاق جديدة تفوق الخيال. والواقع ان هذا المصطلح (الانفجار) لم يستخدم من قبل إلا عند وصف كُتّاب الغرب لعملية انتشار الإسلام، ذلك أنه يعني الانتشار السريع في جميع الاتجاهات في وقت واحد.. وكما كان الإسلام ثورة على كل الأوضاع البالية للإنسانية, غيرت كل شيء وأثرت في كل شيء؛ فإن الثورة التي نحن بصددها سوف تنشئ عالما جديدا, ربما لا يمت بصلة إلى عالمنا الحالي الذي نعرفه. وقد أدركت الأمم اليقظة أهمية وخطورة هذا الانقلاب المفاجئ، فأخذت تتسابق في الاستحواذ على مكان ومكانة في العالم الجديد, فالقطار المندفع الذي يحمل الرواد والمتسابقين قطار سريع, لا تكاد تراه من فرط سرعته.. وهو ليس من النوع (القشاش)، بل ربما لا توجد له محطات لمن يريد أن يصعد أو ينزل قبل بلوغ الهدف النهائي. ولاشك أن من يتخلف عن ركوب القطار سوف يجد نفسه جزءا من تاريخ قديم عفا عليه الزمن, والعالم الجديد عالم مادي ليس في قلبه ذرة من رحمة أو شفقة تجاه الضعفاء والفقراء والمتخلفين, فالكعكة في المستقبل القريب لن يسمح بتذوقها إلا لمن شارك في صنعها وتحمل تكاليفها الباهظة. أما الأمم النائمة فلم تنتبه إلى خطورة الموقف.. وجلست مخدرة كالغائب عن الوعي تنتظر فتات الموائد؛ سعيدة باستحواذ الأمم اليقظة على التقنيات العالية الجديدة، ليس على أمل المشاركة والاستفادة من نتائج هذه التقنيات, ولكن على أمل ان تلقي إليها بأدوات التقنية القديمة.. على أساس أنها مازالت في طور النمو وأنها سوف تتقدم بالتدريج من هذه التقنية (البالية) إلى التقنيات العالية.. وهذا للأسف هو عشم إبليس في الجنة!؛ ذلك أن الانفجار المعرفي والثورة التقنية الجديدة- كما سوف نوضح بالأمثلة- سوف تنسف صناعات وتقوض نظما وتنهي وجود سلع أو تحولها إلى خردة وتنقلها إلى المتاحف، وهذا ما بدأ يحدث بالفعل. وسوف تجد هذه الأمم النائمة نفسها أمام منتجات لا تفهم عنها شيئا.. وأمام أسلحة لا تدري ما هي ولا كيف تحمي نفسها منها, ولن يكون هناك مفر (للأسف) من التسليم الكامل والقبول بدور العبيد الذين يعملون لصالح السادة، ويقدمون مواردهم وثرواتهم (الخام) طواعية مقابل الحصول على السلع والمنتجات الجديدة، بالأسعار التي تروق لأصحابها. ولنضرب مثالا بالمواد الصُّغرية (Nano) أو الجسيمات متناهية الصغر.. فمن المنتظر عندما تبلغ البحوث الجديدة القائمة حاليا في هذا الميدان أهدافها أن ينشأ علم كيمياء جديد ليتعامل مع أنماط جديدة مختلفة من العناصر الكيميائية, لها خواصها وتفاعلاتها واستخداماتها المختلفة.. وسوف تنشأ بالتالي مسارات جديدة للتفاعلات الكيميائية مؤدية إلى مواد ومنتجات جديدة لا نعرفها حاليا, منها مثلا أنواع مبتكرة من السبائك بوظائف واستخدامات غير مسبوقة.. ومواد خفيفة عالية المتانة تؤدي إلى التغيير الشامل في أشكال وأنماط البنيان والعمارة المستقبلية، وأدوية وأسمدة ومبيدات موجهة؛ لها وظائفها- المحددة سلفا- والتي لا تحيد عنها، وبطاريات فائقة القدرة صغيرة الحجم يمكن أن تحل محل أو تغني عن بعض مصادر الطاقة التقليدية التي نعرفها حاليا. وهكذا فسوف يترتب على نشوء علم جديد للكيمياء انقلاب جذري في العلوم الهندسية والزراعية والطبية وغيرها, مما سوف يضع من فاته القطار في وضع المشلول العاجز الذي لاحول له ولا قوة!. وسوف يكتشف أولئك الذين ينتظرون فتات الموائد من التقنيات القائمة الآخذة في التلاشي والاندثار أن مكانهم الوحيد هو المتحف، بل ربما لن يجدوا مكانا في المتاحف الحديثة.. لأنها سوف تنال حظها هي الأخرى من الثورة المعرفية. وليس هناك من شك بأن هذه التوقعات ليست من قبيل الأماني, ولا هي من باب الرجم بالغيب, فقد عرف الإنسان سلم التطور واكتشف أسراره وخطواته, وأصبحت النتائج المرجوة مجرد تحصيل حاصل للخطط المستهدفة. ولكي تتضح الصورة.. لنضرب مثالا بما نشهده حاليا ونراه رأي العين في ميدان الحاسب الآلي وما أحدثه من ثورة في الاتصال والمعلومات أدت إلى اختفاء صناعات وسلع، منها ما هو مبتكر حديثا ولم يأخذ حظه في الانتشار. وأول ما سقط على أعتاب الحاسب الآلي..الآلات الكاتبة, فقد بدأت في الاندثار إنتاجا وتوزيعا واستخداما رغم التطور الكبير الذي شهدته هذه الصناعة في الآونة الأخيرة, حيث لم تتخلف عن العصر, وظهرت الآلات المُحَوْسبة التي استفاد صانعوها من إمكانات ومزايا الحاسب الآلي.. ولكن التيار المندفع للحاسبات الآلية لم يدع مجالا للفروع إلى جانب الأصل, القوي الراسخ. وفي الطريق إلى الاندثار جهاز الناسوخ (Fax) التقليدي الذي لم يكد ينتشر ويعرفه الناس وكذلك الهاتف المجيب (Answering machine) حيث يتضمنهما الحاسوب، وما تفرع عنه من هواتف ذكية. ومن المتوقع أن يلقى الهاتف المنزلي (الأرضي) المصير نفسه.. إذ بزغ الهاتف الجوال بإمكاناته الخرافية وحجمه الصغير ووزنه الخفيف, وقد تحول بسرعة كبيرة إلى سلعة عادية يملكها الصغير والكبير والغني والفقير, لتُشيّع الهواتف العادية بأسلاكها وخطوطها وغرفها وعمالها إلى مثواها الأخير. وقد أدى انتشار الهاتف الجوال إلى الاستغناء عن الساعات اليدوية والمفكرات والتقويم المطبوع والكتاب المطبوع والصحيفة الورقية وخرائط المدن وأجهزة استقبال الإذاعة المسموعة والآلات الحاسبة والمنبهات العادية التي توقظ النائمين أو تذكر بالمواعيد.. بل وصل الأمر إلى الاستغناء عن السكرتيرة التي تنظم لك المواعيد وتذكرك بها. كما ظهرت طفرة جديدة بظهور الهاتف الجوال (الذكي) بالتطبيقات المتعددة التي سهلت لنا الحياة وأظهرت جيلا جديدا من الشباب والأطفال الذين اكتسبوا من المعارف ما يفوق آباءهم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.