سوف تعرف عزيزى القارئ، خلال قراءتك للمقال، من هم الذين يريدون لمصر ألا تنهض.. فمنذ أوائل القرن التاسع عشر، وبغض النظر عن وجهات نظر متعددة فى شأن محمد على، لكن مما لا شك فيه أنه استطاع أن يبنى دولة حديثة قوية، راحت تتمدد فى إقليمها المحيط بها، وعرفت التعليم الحديث، وتُرجم العشرات من الكتب العلمية، وأرسلت بعثات علمية للخارج، ودخلت صناعات حديثة، وكذلك زراعات مهمة.. وهكذا، فماذا حدث؟ لم تطق الدول الغربية على ذلك صبرا، فهى كانت تعد الأيام حتى تحين ساعة سقوط الخلافة العثمانية، ثم يقتسمون تركتها من الدول العربية، فكانت الحرب الأوربية التى شنت على مصر، فقزمتها سنين عددا.. فمن ساعدهم على ذلك؟ الدولة العثمانية نفسها!! وقبل أن ينصرم القرن التاسع عشر، بدأت الصحوة المصرية تتطلع إلى معاودة النهوض، فكان ما كان فى عهد إسماعيل من مشروعات نهضة كان أبرزها ظهور أول مجلس نيابى فى الشرق، عام 1886، لكن المكر الأوروبى كان لكل هذا بالمرصاد، حيث أوقعوه فى حبائل الديون، التى أتاحت هيمنة وسيطرة أجنبية على مصر. وعاودت مصر صحوتها على يد العسكر المصرى العظيم بقيادة أحمد عرابى، الذى صرخ فى وجه الحاكم الخديو: أن المصريين ليسوا عقارا يورث، وقد ولدوا أحرارا، ولابد أن يظلوا كذلك أحرارًا، وعاد المجلس النيابى.. لكن الأبالسة لم يطيقوا على ذلك صبرا، فكان تدبير مذبحة الإسكندرية، لتظهر مصر عاجزة عن حماية الأجانب، وإذا بالهجمة البريطانية العسكرية تحتل مصر أكثر من سبعين عامًا، وتشل خلالها الإرادة المصرية سنين عددًا. وعندما قامت ثورة يوليو 1952، وبدأت تسعى لتنمية مصر، بالتفكير فى مشروع السد العالى، إذا بالولايات المتحدةالأمريكية تسحب وعدا سابقا بالتمويل، مع تحريك البنك الدولى ليسحب هو الآخر تمويله.. كل ذلك لأن مصر أرادت أن تتسلح، وماطلت أمريكا، واشترطت الصلح مع الكيان الصهيونى، فالتجأ عبد الناصر للكتلة الشرقية، وكان ما كان من تداعيات معروفة، حتى ضربة يونيه 1967. لكنى أريد أن أتوقف بعض الشىء أمام تجربة عام 1950، حيث كان الضغط الشعبى قويًا ضد استمرار احتلال القوات البريطانية لمنطقة قناة السويس، وكان حزب الوفد قد نجح فى انتخابات آخر عام 1949، وشكل حكومته التى شهدت مصر خلالها من الديمقراطية ما لم تشهده من قبل ولا من بعد، إذا استثنينا الفترة الحالية. كنت شاهدا على ذلك، على الرغم من صغر سنى وقتها، حيث كنت أطالع صحفًا متعددة الاتجاهات: ما يتبع القصر الملكى، وما يتبع الحركة الوطنية، وصحف شيوعية، وأخرى للإخوان المسلمين، وصحف لمصر الفتاة، والحزب الوطنى الجديد..وهكذا ووصل الضغط الشعبى إلى حد أن وقف مصطفى النحاس، رئيس الوزراء فى مجلس النواب ليصيح عاليا: أنه إذا كان من قبل قد وقع معاهدة عام 1936، فإنه اليوم ( أواخر عام 1951) يطالب النواب بإلغائها.. واشتعلت المشاعر الشعبية، وأخذ سقف المطالب يعلو.. ووصل فيضان الوطنية إلى حد أن شهد ميدان التحرير(الخديو إسماعيل وقتها) أضخم مظاهرة سلمية "بحق وحقيق" شارك فيها مئات الآلاف، وتقدمها رئيس الوزراء نفسه، وكوكبة من الزعماء السياسيين الكبار، وكل التيارات والاتجاهات، وكان ذلك فى الثالث عشر من نوفمبر 1951، الذى كان يسمى عيد الجهاد. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل واشتعلت حرب مقاومة وطنية رائعة، على طول قناة السويس ضد جنود الاحتلال، ووصل الأمر إلى حد مشاركة قوات شرطة ضعيفة التسليح فى الإسماعيلية، فكان ما كان من ضربها بكل القوة والوحشية الإنجليزية، فى الخامس والعشرين من يناير عام 1952. ها هى إذن مقدمات نهضة وطنية مصرية، فهل يستمر نجاحها وتنهض مصر وتقوى؟. هنا كان حريق القاهرة فى اليوم التالى لمذبحة الإسماعيلية، فى السادس والعشرين من يناير، كى تُقال الحكومة الشعبية الوفدية، وتوقف حركة المقاومة على طول القناة، ويهدم سرادق الديمقراطية، وتعلن الأحكام العرفية، وتعود مصر أدراجها مهانة ذليلة... هل كان حريق القاهرة نتيجة فوران المشاعر الوطنية لمجزرة الإسماعيلية حقيقة؟ وكأن سيناريو محمد محمود الحالى هو هو، وإن تم إخراجه بشكل مختلف.. هنا، فلنرجع إلى مذكرات "صلاح الشاهد" الذى كان كبيرًا للأمناء فى أواخر العهد الملكى، وكذلك عهد عبدالناصر( ص 117، طبعة دار المعارف، 1976): "فى أوائل يناير سنة 1952، حضر إلى مجلس الوزراء الأستاذ فريد شحاتة، سكرتير الدكتور طه حسين وقتها، وأخبرنى أن الوزارة مآلها الإقالة قبل انقضاء شهر يناير، وقد هالنى هذا النبأ وقلت له: إن الوزارة تتمتع بالعطف الملكى، ولاسيما فى الآونة الأخيرة الدقيقة بعد إلغاء المعاهدة. ولكنه ما لبث أن اتصل بى فى منتصف الشهر ذاته، مؤكدًا أن الوزارة ستقال، وقد راهنته على ذلك.. وفى صباح يوم 24 يناير سنة 1952، عاود المذكور الاتصال بى، وفى هذه المرة أكد أن ثمة مظاهرات سوف تتفجر صباح السبت، ولن تنتهى إلا بإقالة الوزارة فى نفس اليوم. (وهكذا نلاحظ أن الأمر رُتب له قبل مذبحة الإسماعيلية، مما يوحى بأنه قد خُطط لها لإيجاد ذريعة تنسب حريق القاهرة للفورة الشعبية المصرية، وما هى كذلك ؟!!). وبالفعل جاء صباح 26 يناير سنة 1952، وكانت الحوادث الشهيرة التى انتهت بحريق القاهرة، وإعلان الأحكام العرفية فى نفس الليلة، وأُقيلت الوزارة..". وعاد الظلام يخيم على مصر، ولا تجد من يمسح دموعها، والدخان يتصاعد من المبانى المحروقة فى القاهرة..!!. وفى الكتاب بعض التفاصيل التى من خلالها نعرف مصادر فريد شحاتة، وهى أجنبية، حيث كان ما يُخبر به مقدما يتحقق بالفعل.. هل يُعقل، أن نظل هكذا عشرات السنين، ألعوبة فى أيد ليست خفية، تريد السوء بهذا الوطن، ويعلم ذلك بعض أولى الأمر، ولا يكشفون، ولا يحاسبون؟ يقولون إن السيناريو نفسه يتكرر، ويحصون أحداثًا، كلها بعد يناير 2011، لكن الأمر أدهى من ذلك وأمر.. إنها سيناريوهات تتكرر منذ عشرات السنين، كلما بدأت مصر فى النهوض. كنا من قبل نردد مع رسولنا صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون، لكننى الآن أقول: اللهم لا تغفر لقومى فإنهم يعلمون، ولا يتعظون!! عندما يصبح التعليم "محنة" وليس "منحة" ؟! هو أستاذ جامعى صديق قد طعن فى السن مثلى، آنسُ إلى الجلوس إليه كثيرًا، لكنى هذه المرة وجدته حزينا قلقا، كأنه يحمل جبلاً فوق صدره، فحاولت أن أخفف عنه، فسألته عما يحزنه ويقلقه، وبعد تردد قال: إنك تعلم كيف أصبحت منذ عدة سنوات أتكفل بابنتى وولديها، لكن هذه المرة فوجئت بحفيدى يحتاج إلى مصاريف تزيد على السبعة آلاف جنيه، أى ضعف مرتب مثلنا الشهرى، حيث لم يصل، بعد العمل ما يقرب من خمسين عامًا أستاذًا فى التعليم الجامعى، أربعة آلاف جنيه، فى الوقت الذى أقرأ فيه عن أن مرتب مدرب كرة قدم "محلى" بلغ مائة وعشرين ألف جنيه شهريًا! فسألته: لكن يا صديقى: ما الذى دفعكم إلى إلحاق الحفيد بهذه المدرسة مرتفعة المصروفات، وهناك مدارس للدولة، لا تتطلب إلا مبلغًا بسيطًا للغاية؟ فقال: أنت تعلم أن مدارس الدولة مع الأسف الشديد قد أصبحت مجرد أماكن للإيواء، لا يتم فيها تعليم حقيقى، وإلا: قل لى بربك: كيف يعلم المعلم تلاميذ قد يزيد عددهم فى الفصل الواحد عن ستين تلميذًا فى دقائق تزيد على نصف الساعة بدقائق تعد محدودة؟. سألته، فهناك مدارس خاصة ربما تتقاضى نصف هذا المبلغ؟ قال جربناها، حيث قضى فيها الحفيد من الحضانة إلى الإعدادية، لكن كثافة الفصل فيها بدأت تزيد على الأربعين تلميذًا فى الفصل الواحد، مما لابد أن تكون له آثاره السلبية على التعلم والتعليم، فألحقناه بمدرسة تقع فى منطقة وسطى بين مدارس أخرى تتقاضى ضعف هذا المبلغ، وهذه السابقة التى تتقاضى ما يقرب من نصفه. ثم استأنف صديقى، قائلا إن المسألة ليتها تقف عند حدود المصاريف السنوية، فقد لاحظ أن حفيده، لم يذهب يوما إلى المدرسة، فسأله عن هذا؟ أجاب الحفيد: أن لديه درسًا خاصًا فى مكان آخر يبدأ فى الثامنة صباحًا! فحاول الصديق أن يحبس ضيقه عن حفيده، سائلا إياه: يا بنى: إذا كنا قد ضحينا بأموال تفوق طاقتنا لتتعلم فى مدرسة قيل إنها متميزة، فكيف لا تذهب إليها، وبدلاً من ذلك تتعاطى دروسًا خصوصية، حيث المصروفات الشهرية، تتعدى الألف من الجنيهات؟ أجاب بأن التعليم فى المدرسة أفضل فعلاً من سابقتها، لكن "الدروس" الآن ضرورية، فهى "الثانوية العامة" يا جدو، وما أدراك ما الثانوية العامة؟ فأكمل الصديق بينه وبين نفسه: فعلا! إنها الثانوية العامة: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2))"، سورة الحج. كأننى، وأنا الذى تصورت أنى أسعى إلى التخفيف عن الصديق، أستاذ الجامعة الطاعن فى السن، وينتظر لقاء ربه بين لحظة وأخرى، قد فتحت "دملا" كان متورمًا، محتقنًا، يمتلئ بالصديد المخيف! انطلق وكأنه يكاد يصرخ: يا عزيزى، لقد كان من أكبر نعم الله على الإنسان أن خصه بالقدرة على التعلم والتعليم، هذه النعمة التى تفتح من الآفاق والمجالات لصور تقدم ونهوض إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فأصبح التعليم "نعمة" تؤدى بالإنسان إلى الخير العظيم، حتى أن رسول الله، بدلا من أن يتسلم مالا ومادة نظير الإفراج عن الأسير، بعد غزوة بدر، يطلب أن يُعلم الأسيرُ المتعلم، مسلمًا، ومن هنا حق لأستاذ فى علم النفس كبير(الدكتور سيد عثمان) أن يؤلف كتابا عنوانه (بهجة التعلم)، معتبرا التعلم وكأنه سبيل إلى الاستمتاع بكل نعم الله الكونية البشرية.. وها هو الآن يصبح "محنة للأسرة المصرية. وتصور يا سيدى، أن المصريين الذين أذهلوا العالم بثورتهم فى يناير 2011، لم يقربوا حتى الآن، وقد مر على اندلاع الثورة أكثر من عام، من التعليم ليعودوا به "منحة" و"نعمة" إلهية تُسعد الناس وتبهجهم، وليس "محنة" و"نقمة"، تمتص دماءهم وعرقهم وتدفعهم إلى القلق والاضطراب، مع أن هذا هو التعبير الصحيح عن الثورة، إذا كان أصحابها يريدون أن تكون ثورة حقيقية!!