لا أظن أن النظام السياسي القائم يحتاج إلى من يتآمر عليه ، فهو يتآمر على نفسه بما يكفي لإرباك مسيرته وتشويه سيرته وتعطيل أي خطط إصلاحية له ، ولا أظن الرئيس عبد الفتاح السيسي عندما يتحدث عن "أهل الشر" أنه يقصد أحدا خارج النظام ، ففي سلوكيات بعض أركان النظام ما يكفي لأداء دور "أهل الشر" بكفاءة تامة ، هذا النظام كما يقول العامة في وصف من ابتلي بالتخبط في قراراته بما يضر نفسه : "ربنا مسلطه على نفسه" ! ، ويمكننا أن نحشد عشرات الأمثلة على هذا "التخبط السياسي" في السنتين الأخيرتين ، وإن كان ما وقع خلال الأسبوع الماضي وحده فقط يكفي للدلالة على ما نقول ، وأقصد بذلك الصدام الغريب للنظام مع نقابة الصحفيين ، وتحويل رئيس النقابة ونائبيه للمحاكمة العاجلة والتي قد تقضي بحبسهما أيضا ، وذلك على خلفية تفاقم أزمة اقتحام قوات الأمن للنقابة للقبض على اثنين من الصحفيين اعتصما بداخلها وطلبت النيابة القبض عليهما ، حيث وقعت سلسلة من التصعيد انتهت إلى هذا المشهد الذي جعل الأممالمتحدة ممثلة في أمينها العام ، رأس المؤسسة الدولية الرفيعة ، تندد بما يجري للصحافة والصحفيين في مصر وتبدي قلقها من التحرش بالصحفيين ومحاكمة النقيب ونائبيه ، وفي هذا ما فيه من "تجريس" للنظام السياسي وإهانة سمعته دوليا رغم أي كلام "في الداخل" يقال للاستهلاك المحلي ، والواقعة الثانية ، في ذات الأسبوع ، تحويل المستشار هشام جنينه ، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ، أعلى سلطة رقابية في الدولة ، إلى المحاكمة "العاجلة" أيضا بتهمة نشره أخبارا كاذبة عن الفساد في أجهزة الدولة ومؤسساتها ، وهو الحدث الذي أثار ضجة في الداخل والخارج أيضا ، واتهامات صريحة للنظام بالتستر على الفساد وترويع أي صوت يكشف عن "فساد الكبار" حتى لو كان رئيس الجهاز السيادي المنوط به ذلك العمل دستوريا وقانونيا ، وهذا الإجراء سيربك جهود الاستثمار الجاد بالفعل ، لأن أحدا من المستثمرين الجادين عربا أو أجانب لن يثق في سلامة النظام الاقتصادي المصري وشفافيته وهو يرى رئيس أهم جهاز رقابي يحاكم لأنه كشف فساد أجهزة الدولة . كان باستطاعة رئيس الجمهورية إنهاء أزمة الصحفيين خلال نصف ساعة ، يلتقي فيها بمجلس نقابة الصحفيين ويؤكد على دعمه لحرية الصحافة وحمايته لكرامة الصحفيين ، ويكلف لجنة من الحكماء لإنهاء الأزمة بهدوء ، وكان ذلك سيضاف إيجابيا لرصيده السياسي بدون شك ، لكنه لم يفعل ، واختار التجاهل ثم التصعيد ، أيضا كان بإمكان الرئيس الاكتفاء بإقالة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ، وطي تلك الصفحة وتجاهل أي تصعيد فيها لأنها فضيحة على كل حال ، سواء أدين رئيس الجهاز السيادي أو أدين النظام ، ولكن الذي حدث عكس ذلك تماما في الأزمتين ، إذ بدا أن التصعيد مقصود ، وأن ثمة أطرافا في النظام ترى أن المطلوب في تلك المرحلة هو كسر أي إرادة سياسية مستقلة مهما كانت مكانتها، باختصار ، مطلوب "تأميم السياسة" ، وأنه لا بد من "ذبح القطة" للجميع لكي يدخل الجميع "القفص" ولا يجرؤ أحد على الكلام ولا على الاحتجاج ولا على ممارسة الحق الدستوري في المعارضة . في أزمة الصحفيين توقف المراقبون طويلا أمام تجاهل الرئيس التام للأزمة ، كأنه لا يراها ، بينما يهتم ويعلق على أزمات أقل أهمية واتساعا ، وقال البعض أن الرئاسة غضبت بشدة من المظاهرة الحاشدة وغير المسبوقة التي جرت في 25 أبريل أمام نقابة الصحفيين والتي هتفت ضد السيسي شخصيا وطالبت برحيله ، وأن كل ما جرى بعد ذلك هو تأديب للصحفيين ونقابتهم على ما جرى ، وفي أزمة هشام جنينه ربط البعض بين تقدم هشام جنينه بطعن أمام القضاء الإداري على قرار السيسي بعزله من منصبه وبين استدعاء نيابة أمن الدولة له للتحقيق معه في نفس الأسبوع ، بعد أن كانت الأمور مجمدة لمدة شهرين ، واعتبر البعض أن المحاكمة العاجلة لهشام جنينه هي نوع من التأديب على تجرأه على مقاضاة السيسي أمام مجلس الدولة في قرار عزله والذي يمكن أن يسبب له إحراجا سياسيا إذا حكمت المحكمة لصالحه . المشكلة في مصر الآن أنها تدار "بالعضلات" وليس بالعقل السياسي ، وأن الخبرة العسكرية للقيادة لم تستغرق وقتا كافيا لكي يخف حضورها في طريقة إدارة مجتمع مدني معقد ومتشعب مثل مصر ، والمؤكد أن منطق الأمر والنهي وانضباط السمع والطاعة بدون نقاش أو معارضة ، ستكون سببا في صدامات عديدة مع قطاعات المجتمع ومؤسساته ، ولن تكون أزمة هشام جنينه أو نقابة الصحفيين هي الأخيرة ، بل هناك المزيد قادم ، وسيخسر السيسي كل يوم جزءا من المجتمع كان معه ، وسيزداد نزيفه السياسي ، شخصيات أو مؤسسات أو أحزاب ، ولا أريد أن أكون متشائما إذ أؤكد بأن "الأسوأ" لم يأت بعد ، للمجتمع والدولة والنظام معا ، ما لم يتم الانتقال برؤية القيادة وخبرتها لمصر من منظور "المعسكر" إلى أفق "الدولة المدنية" .