الواقعة التي تم الكشف عنها أمس بخصوص ملفات الفساد في مصر ، والتي أظهرت أن هيئة الرقابة الإدارية كانت قد أعدت ملفا عن الفساد في مصر بالمشاركة مع الجهاز المركزي للمحاسبات ، وأن الملف كان يحدد رقم (440 مليار جنيه) ، أربعمائة وأربعين مليار جنيه ، فاتورة الفساد ، وأن هذا التقرير تم تسليمه لرئاسة الجمهورية نهاية العام الماضي ، هذا الواقعة هزت مصر أمس ، التي تعيش كابوسا مصطنعا ، افتعلته مافيا الفساد من أجل الإطاحة بالرجل الذي يمثل لهم "بعبعا" خلال العامين الماضيين ، وهو المستشار هشام جنينه ، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ، الذي يصر على ملاحقة الفساد وإهدار المال العام في مؤسسات الدولة الكبيرة والصغيرة سواء بدأب مخيف ويرسل تقارير منتظمة لرئاسة الجمهورية والنائب العام والرأي العام أيضا ، حيث حركت مافيا الفساد آلتها الإعلامية الضخمة في فضائيات وصحف وشخصيات سياسية وبرلمانية ، من أجل التعجيل بذبح هشام جنينه ، مستغلين حالة الاندهاش الشعبي من أرقام الفساد الضخمة التي كشف عنها جنينه في حوار صحفي له والتي قال أنها تصل إلى 600 مليار جنيه ، بناءا على تقارير الجهاز الذي يرأسه وهي تقارير موثقة بالمستندات حسب ما قال ، وكانت ساعة الصفر في إطلاق الحملة على هشام جنينه هي المؤتمر الذي أعلنت فيه لجنة تقصي الحقائق المشكلة بقرار من رئيس الجمهورية للنظر في صحة بيان جنينه نتائج عملها ، حيث بدا أن اللجنة في لغتها كانت متوافقة تماما مع موجة التشهير بهشام جنينه واتهامه بما يرقى للخيانة الوطنية وتشويه سمعة البلاد ونشر أخبار كاذبة ، بل إن الحملة الإعلامية كانت قد بدأت التمهيد للقصف المركز قبل مؤتمر اللجنة وإعلان النتائج بيوم أو يومين ، بما يعني أن هناك من كان يسرب ويرتب ويمهد للحملة مع مافيا الفساد وإعلامها . الكشف عن تقرير الرقابة الإدارية الذي تم تسليمه لرئاسة الجمهورية وكان يحدد حجم الفساد في مصر ، في قطاع نهب أراضي الدولة فقط ، بأربعمائة وأربعين مليار جنيه ، يعني أن الرقم الذي أعلنه المستشار جنينه بأن مجمل فاتورة الفساد تصل إلى ستمائة مليار جنيه هو رقم منطقي جدا ، غير أن الأهم من ذلك ، أن رئيس الرقابة الإدارية نفسه هو الذي كان يرأس لجنة تقصي الحقائق التي اتهمت جنينه بالتضليل وأن تقارير جهازه كاذبة وغير دقيقة ، بينما الهيئة التي يرأسها سبق وصدقت على كلام جنينه قبل أشهر قليلة بل وأعطت أرقاما ربما أضخم مما أعلنه جنينه نفسه ، وهي مفارقة تستوجب بيانا واضحا من رئيس هيئة الرقابة الإدارية ، يفسر هذا التناقض في الموقف ، وما إذا كان قد تم توظيف مشاركة الهيئة بصورة غير مشروعة للإطاحة برئيس جهاز سيادي مثل المركزي للمحاسبات . الصدمة ألجمت مافيا الفساد وفاجأتهم ، فتراجعت الحملة الإجرامية نوعا ما ، لكن المؤكد أنهم يرتبون أوراقهم الآن من أجل تفعيلها وتصعيدها وعدم ترك الفرصة دون الإجهاز على رمز مقاومة الفساد الأول في مصر الآن ، هشام جنينه ، ووضح من "غياب" الرئيس عبد الفتاح السيسي عن المشهد ، وتراخيه في حماية أهم جهاز رقابي في الدولة ورئيسه الذي يواجه حملة عاتية قذرة ، بدا أنه رئيس حائر ، وأن ملف الفساد أكبر وأخطر من أن يتعامل معه بالحسم الواجب ، وهو ما يحير الناس ، ويجعل الأمل في إنقاذ الوطن من أزماته يتراجع بل ويتلاشى ، خاصة وأن سياسة "التسول" من المال الخليجي ليست حلا ، ولا يمكن البناء عليها للمستقبل ، كما أنها لا تكفي لتصحيح المسار الاقتصادي والتنموي في البلد ، وأهم من ذلك أنها لا يمكن أن تنجح طالما أن "صنبور" الفساد مفتوح ، وجيوب الدولة مثقوبة ، فمهما وضعت فيها سيترسب معظمه في الهدر والفساد . خصوم هشام جنينه ومؤيدوه ، كلاهما متفق على أن الفساد يقدر بمئات المليارات ، ونحن الآن نقبل يد صندوق النقد الدولي من أجل قرض بثلاثين مليارا فقط "حوالي أربعة مليارات دولار" ، فلماذا يتكاسل القرار الرئاسي عن اتخاذ ما يلزم من أجل انتزاع المال العام من مافيا الفساد وهو أقرب إليه وتحت سيطرته ، إن مائتي مليار جنيه فقط تكفي لإحداث طفرة كبيرة في تطوير البنية الأساسية لعموم الوطن والصحة والتعليم والإسكان بما يشعر به المواطن العادي مباشرة وتنتعش به البلاد ، فهل تنشغل الدولة ومؤسساتها بمعركة حول هشام جنينه وتنسى المعركة الأساسية ، وهي أن هناك فاتورة فساد كبيرة ، وأن المسئولة الوطنية بل الضرورة الوطنية تقتضي سرعة العمل على استعادتها . مشكلة السيسي الأهم عندما يفكر في معركة مع مافيا الفساد الخطيرة والتي تملك أدوات مالية وإعلامية رهيبة ، هي أن ظهره مكشوف ، لأنه خسر معظم الظهير الشعبي الذي كان معه في يوليو 2013 ، رغم أي تحفظ على ما جرى ، إلا أنه كان يملك ظهيرا شعبيا حقيقيا ، الآن تبخر كل ذلك وتعمق الانقسام الوطني ، فأصبح ظهره مكشوفا أمام مافيا الفساد وقدراتها ، بل أصبح هو نفسه محتاجا إلى الأذرع الإعلامية لمافيا الفساد ، وتراهن أجهزته على دورها في توجيه البوصلة السياسية في البلاد .