المشكلة التي وقعت في أبو قرقاص بالمنيا بين أسرتين ، مسيحية ومسلمة ، وتطوراتها التي شهدت اشتباكات واعتداءات على أفراد لم نتبين حتى هذه اللحظة طبيعتها بشكل يقيني ودقيق ، رغم الصخب الإعلامي والتشنج الكبير الذي تبديه نخب سياسية وإعلامية ، هذه الواقعة ليست جديدة بالطبع ، وقد تكررت مرارا من قبل ، لارتباطها بمعضلات ثقافية واجتماعية راسخة في الصعيد تتعلق بقضايا الشرف ، إضافة إلى بعض الحساسيات الطائفية إذا ارتبطت بتلك الأحداث ، والغريب أن ردود الفعل ذاتها تتكرر ، سواء من النخب الثقافية أو الإعلامية أو من الدولة وأجهزتها أو من بعض رجال الدين ، ومعها تتكرر نفس الأخطاء ، من الجميع . يسرب أحدهم خبرا عن واقعة معينة ، فتهيج الدنيا ، ويتراشق الجميع بالاتهامات ، ويستحضر الجميع وثائق الأممالمتحدة لحقوق الإنسان !!، ويتطوع كثيرون بإعطاء الشعب دروسا في التحضر والاستنارة ، ولا بأس من وصف الشعب المصري بأخس الأوصاف وقد وصل الحال لاتهام الشعب المصري بأنه داعشي المزاج والتكوين ، ثم تسأل أحدا من هؤلاء "المحترمين" عن مصدره الموثوق للواقعة وتفاصيلها ، لا تجد سوى أنه تابع صفحات التواصل الاجتماعي ، تقول له المحافظ نفى ، يقول لك المحافظ كذاب ، تقول له عمدة القرية نفى ، يقول لك العمدة يخفي الحقيقة ، تقول له أن شهود عيان هناك قالوا بغير تلك الرواية بمن فيهم أقباط يقول لك لا تدفن رأسك في الرمال ، تقول له : طب اعطني دليلا قطعيا على الواقعة التي أهاجت شعورك ، يختفي وراء السباب والاتهامات المتنوعة . حتى هذه اللحظة لا نعرف بوجه القطع ، في الواقعة الأكثر إثارة وهي تعرية السيدة المسيحية والدة الشاب المتهم بالاعتداء الجنسي على سيدة مسلمة ، هل حدثت تعرية فعلا لها ؟ ، هل الواقعة تتلخص في نزع طرحتها من على رأسها كما حكى البعض ؟ ، هل الذي حدث تمزق في بعض ثيابها ؟ ، هل تم زفها في الشوارع عارية كما تم تصوير المشهد المسرحي ؟، طيب هل هناك أي صورة أو فيديو توثق ما حدث إن كان فعلا حدث ، سواء من مواطن مسلم أو مسيحي ، هل اختفت الموبايلات من البلد بكاملها في تلك اللحظة ، طيب هل تم الحصول على رواية متكاملة من صاحبة الأزمة نفسها ، طيب هل استمع أحد إلى الروايات الأخرى من أهالي القرية التي توضح صورة ما جرى حتى تتكامل الصورة ، لا شيء من تلك البديهيات نعرفه ، ومع ذلك قرر الجميع الهجوم والنقد والإهانة للشعب المصري واتهامه بأحط الأوصاف ، والطريف أن نفس هؤلاء جميعا كانوا يعطوننا دروسا في ضرورة أن يكون للقانون والدستور كلمة ، وأن المجالس العرفية تهريج ، في حين أن كل سلوكياتهم تجاه المسألة لا تتصل بقانون ولا دستور ولا أخلاق ، وإنما بتهريج إعلامي ودعوات "عرفية" للثأر والتحريض على أهالي القرية لأنهم جميعا أصبحوا في وجه المدفع ، لدرجة أن قدم الأهالي استغاثة تطالب بوقف الحملة ضدهم والبحث عن المتورطين في الأحداث لمحاسبتهم . الأنبا مكاريوس ، أسقف المنيا ، كان على خط "التهييج" منذ اليوم الأول ، وتحدث بوصفه ممثل رئيس الجمهورية في المحافظة ، صاحب الولاية على "المواطنين" ، أو هو رئيس الجمهورية الفعلي ، لدرجة أن البرلمان يطلب مقابلة السيدة "المواطنة" المعتدى عليها فيرفض الأنبا مكاريوس طلب البرلمان ، ويوجه خطابا عنيفا للبرلمان قائلا : لن نسمح لكم بالمقابلة حتى يأخذ القانون مجراه ويتم ضبط المعتدين ، والبرلمان وفقا للدستور والقانون هو مؤسسة الدولة الرقابية والتشريعية ، ويبسط ولايته على كل أنحاء الوطن ، لكن الأنبا مكاريوس فوق القانون وفوق الدستور وفوق البرلمان ، وهو وحده صاحب الولاية والقرار على "المواطنة" المسيحية ، وكلمته نافذة ، ولم يجرؤ البرلمان ولا رئيسه على أن يقول له : عيب ، على الأقل : عيب ، كما وجه مكاريوس تهديدا لما يسمى "بيت العائلة" وهو مؤسسة أهلية يرأسها شيخ الأزهر والبابا تواضروس للتعامل مع الأزمات الطائفية بحلول اجتماعية عاجلة تمنع توسع العنف وتحاسب المخطئ وترضي النفوس ، وقال الرجل بلهجة حاسمة ومستعلية : (نحن نرفض رفضا تاما أن يظهر في المشهد الآن ما يسمى "ببيت العائلة" لإنهاء الأزمة بالتصالح بين الطرفين) ، ولا أعرف الضمير في "نحن" يعود على من بالضبط ، وما هي صفته ، وانتشر الأنبا مكاريوس في وسائل الإعلام متحدثا باسم الأقباط ، ومذكرا بأن حقوق الأقباط منتهكة وأنه حتى الآن لم يصعد الأمر دوليا وأن حق أقباط المنيا لا بد أن يعود ، ولم يجد الرجل أي "مستنير" من الذين أعطونا دروسا عن سيادة دولة القانون والدستور على مواطنيها ، لكي يقول له : ما هي صفتك القانونية والدستورية لكي تقول ذلك وتتحدث باسم "المواطنين" ، سواء كانوا أقباطا أو مسلمين ، الكل اعتبر أن هذا الكلام "العرفي" الذي يغتصب القانون والدستور يجوز في تلك الظروف ، لأن لغة "المصاطب" هي التي تسود الآن مع الأسف . الوطن الذي يعاني الآن على مختلف الأصعدة ، لا ينقصه تهييج ولا إثارة ، والمشكلات ذات الحساسية العالية ، مثل القضايا ذات البعد الطائفي أو المتصل بتقاليد راسخة من مئات السنين ، لا يصح التعامل معها باستعلاء النخبة وعجرفتها ، ولا بغشومية الإعلام وصخبه ، ولا باندفاع المرجعيات الدينية وصبها الزيت على النار ، ولا بمزايدات القوى السياسية الموالية أو المعارضة للسلطة ، فالمسألة فوق السياسة وقبلها ، وكل ذلك يزيد الفتن ويعرض الوطن لمخاطر هائلة ، وإنما الوطن يحتاج هنا إلى الحكمة والعقل والإحساس العالي بالمسئولية ، وإلى التفريق بين محاسبة المخطئ بسيف "العدالة" بدون تحريض واسع على القمع والاستباحة ، وبين منع تفجر الفتن والحرائق ، لأن سجن شخص أو مائة لن يحل وحده إشكالا بهذا العمق ، بل ربما يزيد إليه مبررات الغضب والرغبة في الانتقام ، وهناك حلول أهلية عاجلة قصيرة الأمد ، وهناك حلول ثقافية وسياسية طويل الأمد ، والأفندية في القاهرة الذين صدعوا رؤوسنا طوال الأيام الماضية بدروس التنوير والتحضر ، يلزمهم أن "يعفروا" ياقات قمصانهم ، أو ذيول "جيباتهن" ببعض تراب قرى وكفور صعيد مصر ، ليعايشوا الواقع عن قرب ويدرسوه ويعرفوا مشكلاته وخلفياتها وتداخلاتها ، فهذا ربما جعلهم أكثر حكمة وأكثر واقعية وأكثر وطنية ، لو كانوا يعقلون .