شعور الشعب المصرى بالكراهية والازدراء تجاه نظامه الحاكم، الذى يطبق على عنقه منذ عقود حتى كاد يخنقه تماما، أصبح أمراً معروفا للجميع وواضحاً كضوء النهار، ولم يعد يقبل مزيدا من الجدل أو التشكيك. وفيما عدا قلة محدودة العدد للغاية محسوبة على هذا النظام ومستفيدة منه ومرتبطة به مصلحيا وأمنيا، لا يوجد فى صفوف الشعب سوى معارضين له أو ساخطين عليه أو رافضين لسياساته. قد لا يكون بمقدور الأغلبية الساحقة من شعب مصر لأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن أن تعبر دائما وبطريقة علنية عن مشاعرها المعادية للنظام وعن مواقفها الرافضة لسياساته، غير أن الأجهزة المعنية فى الحزب الحاكم تدرك أكثر من غيرها أن مرشحيه لا يستطيعون الفوز فى أى انتخابات تشريعية أو رئاسية تتوافر فيها حدود دنيا من ضمانات النزاهة والشفافية، بدليل اللجوء المتكرر إلى التزوير المباشر، وبطريقة فاضحة ومكشوفة، مثلما حدث فى انتخابات التجديد النصفى الأخيرة لمجلس الشورى. لذا يبدو واضحا أن النظام الحاكم سيبذل كل ما فى وسعه لتزوير الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، ولن يقدم أى تنازلات فى هذا الصدد إلا إذا اضطر على ذلك اضطرارا، وبضغط داخلى وخارجى مكثف. غير أن كراهية الشعب المصرى لنظامه الحاكم ومعارضته سياساته لا تعنيان بالضرورة أن تغيير هذا النظام بات هدفا فى متناول اليد، ففساد النظام وضعفه شىء، والقدرة على إسقاطه أو تغييره واستبداله شىء آخر مختلف. كانت الساحة السياسية فى مصر قد شهدت على مدى السنوات الخمس الأخيرة حالة حراك سياسى نشط، انطلقت فى ثناياها موجات متعاقبة من حركات احتجاج، أظهرت مسيرتها، مدا وجزرا، أن للنظام الحاكم أنيابا أشرس مما تصور البعض، وأن للمعارضة مساوئ وعيوبا أكبر مما تصور كثيرون!. فى البداية ظهرت حركة «كفاية» رافعة شعارها الجسور: «لا للتوريث.. لا للتمديد» فتحركت معها مياه الحياة السياسية الراكدة فى مصر، مطلقة بعد ذلك سيلا من حركات الاحتجاج الاجتماعى والاقتصادى. وعندما تعثرت «كفاية» وانتكست، انطلقت بعدها حركة 6 أبريل، الأكثر شبابا وهمة، محاولة مد جسر يصل بين حركات الاحتجاج السياسى وحركات الاحتجاج الاجتماعى، غير أنها انتكست بدورها ومعها موجة الحراك الأولى. نعم: استطاع الحزب الحاكم أن يستوعب هذه الموجة وأن يوقف قوة اندفاعها، بل تمكن من توظيفها لصالحه. فما إن نجح فى تحقيق الأهداف التى سعى إليها فى الانتخابات التشريعية والرئاسية لعام 2005، حتى راح يستجمع قواه وقام بتسديد ضربة قوية، تصور أنها ستقضى تماما على حالة الحراك السياسى فى المجتمع المصرى إلى الأبد، حين نجح عام 2007 فى إدخال تعديلات دستورية واسعة النطاق، مكنته من استعادة هيمنته على مجمل آليات العمل السياسى و«تقنين» مشروعه لتوريث السلطة، لكن سرعان ما تبين له أن الكلمة الفصل فى حالة الحراك السياسى لم تقل بعد. فما هى إلا شهور قليلة حتى راحت تتبلور تدريجيا، ومع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية التالية، موجة ثانية لحراك سياسى من نوع جديد، بدأ بإطلاق «حملة مصرية ضد التوريث»، وأخذ قوة اندفاع غير مسبوقة بدخول الدكتور البرادعى ساحة العمل السياسى المباشر، ليصل إلى ذروته بتأسيس «جمعية وطنية للتغيير» أصبحت محط آمال المصريين وإطارا جامعا لكل القوى الطامحة للتغيير، والتى تسعى لتأسيس نظام ديمقراطى حقيقى فى مصر. غير أن السرعة التى اتسمت بها تلك الأحداث المتلاحقة، وغير المخطط لها سلفا فى الواقع، أثارت نوعين مختلفين وربما متعارضين من ردود الأفعال، فتفاعل الرأى العام مع «المولود السياسى الجديد» بإيجابية كبيرة ضخّم من ناحية حجم التوقعات المنتظر تحقيقها بدرجة تفوق قدرته الميدانية على الإنجاز، كما أصيب النظام الحاكم بهلع حقيقى جعله من ناحية أخرى يبالغ فى تصرفاته العنيفة التى استهدفت تشويه هذا المولود وإحباط كل الآمال التى تعلقت به. وفى سياق كهذا، كان من الطبيعى أن تختلف وجهات النظر داخل الجمعية حول كيفية التعامل مع حجم التوقعات المبالغ فيها من جانب الرأى العام، أو مع حملات التشويه والتخويف المبالغ فيها من جانب النظام الحاكم. وكما بالغ الرأى العام فى حجم توقعاته من «البرادعى ورفاقه»، يبدو أن الرفاق بالغوا كذلك فى حجم توقعاتهم من البرادعى نفسه! لذا كان من الطبيعى، حين خمدت العواطف المتأججة فى لحظة الاندفاعة الأولى، أن تظهر فجوة، بدت لى كبيرة حينئذ، بين «واقع» ممكن و«طموح» مأمول، وأن تختلف وجهات نظر جميع المعنيين حول كيفية ردمها. للتعامل مع الاختلافات المستجدة هذه، كان لنا أن نسلك أحد سبيلين، الأول: أن نتستر عليها ونعمل على إخفائها قدر المستطاع، حفاظا على الآمال المتأججة عند الرأى العام، وتجنبا للضرر الكبير الذى قد ينجم عن إحباطها، وحرصا على عدم منح الحزب الحاكم فرصة للشماتة كان يتوق لها بشدة. والثانى: أن نفصح عما هو ضرورى منها، على أمل إشراك الرأى العام فى تصحيح مسيرة، كنت أعتقد أنها لا تزال واعدة، وتجنيبه خطر التعلق بأوهام، كان الوقت كفيلا بكشف زيف بعضها على الأقل. وبينما بدا السبيل الأول أسهل وأكثر إغراء من منظور المصالح الشخصية الضيقة، بدا السبيل الثانى هو الأصعب لكنه الأكثر تحقيقا للمصلحة العامة. لقد أثبتت أحداث الأسابيع الأربعة الماضية، فى تقديرى، أن الطريق الذى اخترناه للتعامل مع هذه المستجدات كان هو الأسلم والأوفق. فبعد صدمة اللحظة الأولى للإعلان عن وجود خلافات، وما أحدثه ذلك من إحباط للرأى العام، بدأت كل الأطراف المعنية تفيق من غفلتها، وربما من أوهامها، باحثة عن طريق لتصحيح المسيرة والمسار. وبوسعى أن أؤكد الآن أن «الجمعية الوطنية للتغيير» باتت على أبواب انطلاقة جديدة تأسيسا على القناعات التالية: 1- التقدير التام للدور الكبير الذى قام به الدكتور البرادعى حتى الآن لتنشيط الحراك السياسى المطالب بالتغيير فى مصر، وهو دور كبير وضخم، والترحيب بأى دور يمكن أن يقوم به فى المستقبل، فى حدود ما تسمح به ارتباطاته الدولية ورؤيته الشخصية لكيفية وطريقة القيام بهذا الدور. ولأن عملية التغيير أكبر وأعقد من أن يتحملها شخص بعينه، أو حزب أو جماعة، فالدعوة موجهة لكل من يستطيع أن يسهم فى تأسيس نظام ديمقراطى حقيقى يتسع للجميع، وبالطريقة التى يراها مناسبة. 2- الاقتناع التام بأن «الجمعية» لم تخترع العجلة، وأن مطالبها السبعة هى ذات المطالب التى ترفعها الحركة الوطنية، وبالتالى تصلح لتشكيل أرضية مشتركة تلتقى عليها جميع فصائل الحركة الوطنية المطالبة بالتغيير، الذى لن يصنعه سوى وحدة هذه الحركة. لذا تكمن المهمة الرئيسية للجمعية فى مد الجسور مع كل القوى والحركات الساعية للتغيير، والتى تتفق مع مطالبها السبعة، والتنسيق معها وفق أى صيغة تراها لتوحيد جهود كل الساعين لتأسيس نظام ديمقراطى حقيقى فى مصر. 3- تدرك «الجمعية» أن النظام الحاكم لن يستجيب لأى من هذه المطالب، التى تتمحور فى مجملها حول: أ- كسر الطوق المفروض على ترشح المستقلين لانتخابات الرئاسة. ب- ضمان نزاهة وشفافية الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارا. لذا تتوقف فاعلية الحركة الوطنية المطالبة بالتغيير على حجم ما تستطيع توليده من ضغوط على النظام، لحمله على الاستجابة لهذه المطالب. وقد بلورت الجمعية سلسلة من الأنشطة الرامية لتوليد أكبر قد ممكن من الضغوط على النظام لحمله على الاستجابة لهذه المطالب. 4- يتعين على الجمعية فى حال عدم استجابة النظام وهو الاحتمال الأرجح أن تحدد موقفها من الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة والتى لا يخالجها أى شك فى أن الحزب الحاكم سيسعى لتزويرها مثلما حدث فى مجلس الشورى، لذا تبدو المقاطعة هى الخيار الأنسب. ولأن المقاطعة لا تكون فاعلة إلا إذا كانت جماعية والتزمت بها كل القوى السياسية الفاعلة، فمن الضرورى أن وجود خطة (ب) تسمح بالمشاركة فى الانتخابات إذا اقتضت الضرورة. لذا شُكّلت لجنة لهذا الغرض. لم يعد أمام القوى الراغبة فى التغيير وقت كبير، وإذا لم تتمكن من إنجازه خلال الثمانية عشر شهرا المقبلة، فستفقد الفرصة المتاحة. لذا أعدت الجمعية استراتيجية للعمل خلال هذه الفترة، سنتناول تفاصيلها فى مقال الأحد المقبل بإذن الله.