يوم الأربعاء الماضى لعبت جنوب أفريقيا مباراتها الثانية فى المونديال أمام الأوروجواى.. ولم أكن مثل كثيرين جداً هنا وهناك أتابع هذه المباراة كمجرد واحدة من مباريات المونديال وإنما كنت أشاهدها بعيون نيلسون مانديلا ومشاعره وحساباته ورؤيته أيضاً.. فهذا الرجل الحكيم والعظيم كان يريد هذا المونديال أصلاً منذ ستة أعوام لمحاربة التفرقة العنصرية فى بلاده وإلغاء كل حواجز الكراهية وفواصل الدم بين الأسود والأبيض فى جنوب أفريقيا.. ونجح مانديلا بالفعل فى الفوز بالمونديال ونجحت بلاده فى استضافته.. صحيح أن مانديلا فوجئ يوم الافتتاح بموت حفيدته فاضطر بسبب الحزن والجرح والألم لأن يلزم بيته ووحدته فى يوم فرحته وانتصاره.. إلا أن الحزن الشخصى لم يمنع الجميع من دوام احتفالهم بانتصارهم ومونديالهم.. وبمحض المصادفة.. تزامن موعد المباراة الثانية للأولاد مع الذكرى الرابعة والثلاثين لأحد أكثر الأيام حزنا فى تاريخ جنوب أفريقيا.. السادس عشر من يونيو عام 1976.. حين أطلق ضباط الشرطة البيض النار على مسيرة سلمية نظمها الطلبة والأطفال السود احتجاجاً على سياسة التفرقة العنصرية.. ولأن السود فى ذلك الوقت لم يكونوا بشراً لهم قيمة ومكانة وثمن.. ولأن مانديلا كان وقتها مسجوناً وراء قضبان الظلم والقهر.. مات بالضبط 566 طفلاً وطفلة.. اختلطت براءتهم بدمائهم بالظلم والقسوة فى بلادهم.. ثم خرج مانديلا من السجن واسترد السود حريتهم وكرامتهم.. وجاءت ذكرى هذه المذبحة وقد كبر الأطفال والأولاد السود فباتوا وطنا يستضيف أهم حدث رياضى فى العالم كله.. وفى نفس يوم الذكرى كان منتخب جنوب أفريقيا يلعب بالنيابة عن ملايين السود فى وطنهم الذى استردوه.. وأحسست أن تلك المباراة بمصادفتها هى الانتصار الحقيقى لمانديلا وجنوب أفريقيا وكل السود المظلومين والمنفيين والمنسيين.. ولن أتوقف كثيرا أمام بعض سكان البلاد من البيض.. الأفريكانز.. الذين فرحوا لهزيمة جنوب أفريقيا فى تلك المباراة لأنهم لا يزالون يحتقرون السود ولا يرون لهم أى حقوق أو مشاعر.. فكل هؤلاء مجرد جملة استثنائية عابرة وتافهة وسط قصيدة جميلة ورائعة من الصمود والكبرياء والأمل.. وبدلاً من ذلك سأتوقف أمام رجال البوليس.. السود هذه المرة.. الذين تبين أنهم أطلقوا النيران الحية على عمال سود معتصمين وغاضبين ومفصولين من وظائفهم نفس يوم تلك المباراة لمجرد أنهم تجرأوا وطالبوا برواتبهم ومستحقاتهم المالية بعد شهور من العمل فى منشآت المونديال.. وبقيت أشاهد صور ما يجرى على شاشة الكمبيوتر عبر مختلف وكالات الأنباء والشبكات التليفزيونية العالمية وأنا أحاول مشاركة مانديلا حزنه ودهشته ومشاعره.. هل كان الرجل وقتها يمارس فرحته بموندياله وانتصاره ونجاحه فى إزالة كل الحواجز والفواصل بين السود والبيض فى بلاده.. أم يحزن لأنه بعد 34 عاماً اكتشف أن الرصاص لا يزال يحاصر البسطاء والفقراء فى بلاده.. الفارق الوحيد أن السلاح انتقل الآن من أيدى البيض إلى أيدى السود.. إنه نفس الدرس الذى يتكرر أمامنا طول الوقت.. ليس فى جنوب أفريقيا فقط.. وإنما فى مختلف بلدان العالم الثالث.. حيث تقوم الثورات فتستبدل الطغاة القادمى بطغاة جدد.. أو مستعمرين غرباء قساة القلوب بمستعمرين من أبناء نفس الوطن وبقلوب أشد قسوة.. حتى المونديال نفسه.. لم يستطع تغيير هذه القاعدة ولا نجح فى حماية ملايين السود الفقراء والمظلومين.