تزامن عجيب لحدث يهز دبى ويجعل الأعناق تشرئب إلى حد الاختناق ليلحق البصر ببرج دبى أعلى برج فى العالم، بينما أنا أعيش تاريخاً ليس بالبعيد لحياة رائعة البساطة شديدة الثراء بالتراث فى المكان ذاته أعيشها فى تفاصيل كتاب «سرد الذات» وهو كتاب من نوعية كتب السير الذاتية ولكنه مدون بطريقة شديدة الثراء بتفاصيل الحياة منذ أكثر من نصف قرن فى الأماكن ذاتها التى ترتفع فيها البنايات فى دبى وأبوظبى والشارقة وقد كتبت من قبل أننى أطلقت عليها عشوائية الثراء وأنا كلما سافرت أبحث عن تراث الأماكن وطعم التاريخ.. وجدت ضالتى فى كتاب الدكتور سلطان بن محمد القاسمى حاكم إمارة الشارقة والذى نال بكالوريوس الزراعة فى مصر وتأثر بمصر لدرجة أنه حينما اختلف العرب مع الرئيس السادات سألته: ■ لماذا اختلفت مع مصر؟ فقاطعنى وقال: لم أختلف مع أمى ولكن اختلفت مع جوز أمى!! إن ارتباطه بمصر لا يزايد عليه أحد فقد قال لى وقتها «مصر علمتنى وأنا طالب فى الجيزة أن الإنسان يستطيع أن يشبع بشلن كما يشبع بخمسة جنيهات فهو يأكل بالشلن فول وطعمية ويأكل بالخمسة جنيهات الكباب والحمام ويسعد فى مصر الستينيات لكل أنواع الغنى غنى النفس وغنى القلب وغنى العقل. ومنذ شهر أهدانى كتابه «سرد الذات» والكتاب تسجيل دقيق وصميم للحياة فى الإمارات منذ أوائل الأربعينيات.. تسجيل يجعلنا نتأمل هذا الانفصال الشبكى الذى حدث فى الناس هناك حيث أصبحوا محاصرين بالبنايات الشاهقة، بينما الاتساع الأفقى ينتظر من يبحث عن كنوزه. ولا ينسى أن يحكم الكاتب وصفه للتواجد الاستعمارى ومحاولة غسيل المخ بأى طريقة حتى وصف كيف شاهد السينما، مؤكداً إصرار الإنجليز على عرض السينما فى أى مكان، قائلاً: «فى مناخ الإبل كان الإنجليز يأتون بالسينما مرة كل أسبوع ليعرضوا انتصاراتهم وليس هزائمهم فى الحرب العالمية الثانية» ثم يصف خروجه للتدريب على الخيل واصفاً مروره بالسوق: «وإذا بصف من النساء يفترشن الأرض بأنواع من الخضروات فتركن خضرواتهن وابتعدن فأخذت خيلى تلتهم الخضروات وتغوص حوافرها فى البطيخ والشمام ولم أكن أستطيع أن أسيطر على الخيل فأسرع (سعيد الخيل) المشرف على الخيول بحصانه ليدفع بخيلى إلى وسط مجموعة الخيول.. تعالت أصوات الناس فى السوق وأخذوا يلوحون بأيديهم مما أخاف الخيل فأفلتت وانطلقت فى السوق وقدر الله ولم يصب أحد بأذى» وكانت هذه الواقعة سبباً لصدور قرار من الشيخ سلطان بن صقر القاسمى بعدم دخول الخيول السوق وطرقات الشارقة. من أجمل حكايات «سرد الذات» حينما جاء الأمير سعود بن عبدالعزيز ضيفاً عليهم وأمر حاكم الشارقة بأن تضرب المدافع تحية للأمير وكان المدفع قديماً صدئاً مجرد منظر أمام الحصن!! وحاول العسكرى أن يحشوه ليضرب ولكن المدفع (حرن) يصل الكاتب فى وضوح السرد إلى أدب الاعتراف بالبداوة والبساطة وكيف يلعبون خارج المضيفة والضيوف بالداخل. أما مجيئه إلى مصر لدخول كلية الزراعة فقد كان له مكان ومكانة فى «سرد الذات» واختار هذه النقرة لأنه فيها حاول أن يبعد عن مصر شبهة هى فعلاً ليست فيها وهى الاستقبال غير المرحب بالضيف. ولا ينسى الكاتب فى ذكرياته تكدس الناس فى صلاة الجمعة وقد وضع عنواناً جميلاً «ما أكثر المؤمنين فيك يا مصر» ويتخلل «سرد الذات» إصرار على العروبة وهيام وحب ودفع للقومية الوحدوية مما يجعله دائم القدرة على التخلص من الخلافات العربية العربية ومواجهتها بالموروثات التى يحرص عليها والفهم العميق لأهمية قوة العرب. جاء الكتاب بين يدى ليخلصنى من صداع دبى والمفاخرة بالاتساع الرأسى والعشوائيات واغتيال السماء بالأعمدة الخرسانية والتى تقترب من بعضها فى منطقة جبل على بدبى حتى أنك حينما تخرج من الفندق تظل تدور فى المنطقة نفسها بلا مخرج إلى الطريق الرئيسى حيث العناد والرغبة فى التزاحم بين المليارديرات هناك للفوز بالمنطقة نفسها. جاء الكتاب ليصف الحياة البسيطة والتآزر بين الأسر والتمسك بالعادات والتقاليد وليس من المهم أن نتنافس مع العالم فيما يفعل ولكن علينا أن نثبت وجودنا فى الحفاظ على تراثنا وموروثاتنا وعاداتنا. إن كتاب «سرد الذات» ارتفع بما فيه من حفاظ على الهوية بحيث غطى على برج دبى الذى يشق السماء بما ليس فينا وكأنه فرعون يطلب البناء ليطلع إلى رب موسى. [email protected]