عندما صدر الميثاق الوطنى فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1962، نص فى بنوده على ضمانة إسناد نصف مقاعد التنظيمات السياسية والشعبية على الأقل للعمال والفلاحين، وقد برر ذلك بأنه قد طال حرمانهم من حقهم فى حماية مصالحهم وصنع مستقبلهم، (وأن منحهم هذه الميزة من باب مبدأ تكافؤ الفرص). ولأن الميثاق كان يعتبر فى هذا العهد أعلى مرتبة من الدستور فقد صدر دستور عام 1964 متضمناً هذا الالتزام. وعلى الرغم من أن هذا النص فى كل من الميثاق والدستور جاء ضعيف الحجة منذ نشأته لأسباب عديدة، أولها أن إرادة الناخبين لا يصح أن تكون محل تعويض، وثانيها أن تكافؤ الفرص إنما يكون بتهيئة فرص التعليم والعمل لكل الأفراد طبقاً لما تؤهلهم له مواهبهم وإمكاناتهم، ولا يكون بتمييز فئة عن فئة، أو طبقة عن طبقة.. مع ذلك، وعلى الرغم من ضعف تبريرات الميثاق فى هذا الشأن، فإنه كان يمكن قبولها منذ خمسين عاماً، فى ظل نظام يقوم على تنظيم سياسى واحد، وبغرض ضمان تمثيل كل فئات المجتمع فيه خاصةً المستضعفة منها التى لم تتح لها فرص متكافئة لممارسة السياسة، ولأن النظام السياسى فى الدولة كان يهدف إلى المحافظة على المكاسب الاشتراكية وتدعيمها، والتى كان من أهمها توسيع قاعدة القطاع العام بالنسبة للعمال، والحفاظ على امتداد عقود إيجار وحيازة الأراضى الزراعية بالنسبة للفلاحين، فكان لابد من تمكينهم من الحصول على الأغلبية فى كل التنظيمات السياسية ومنها مجلس الشعب، الذى كان يسمى «مجلس الأمة» فى ذلك الوقت، حتى يتمكنوا من الحفاظ على هذه المكاسب، والآن وبعد مرور ما يقارب خمسين عاماً على صدور الميثاق، الذى انتهت شرعيته منذ زمن بعيد، ليس فقط لأنه لم يعد صالحاً، بل لأنه أصبح مناقضاً للنظام الاقتصادى والسياسى الذى اختارت مصر الأخذ به.. بعد مرور كل هذه الفترة التى كانت أكثر من كافية لاستغلال هذه الميزة – ميزة الأغلبية الفئوية – فى استصدار نصوص وتشريعات لحماية حقوق العمال والفلاحين، كان يتعين على الدستور أن يعود إلى المسلك المتبع فى تشكيل المجالس النيابية فى كل الدول، اشتراكية كانت أو رأسمالية، فالمجالس النيابية فى كل الدول لا تفرق بين مرشح وآخر إلا على أساس إرادة جموع الناخبين.. ومع إلغاء الاتحاد الاشتراكى، والأخذ بالنظام الديمقراطى القائم على التعددية الحزبية لم يصبح لهذا الالتزام الدستورى معنى على الإطلاق، فالتعددية الحزبية قوامها الرئيسى هو انتفاء وصاية فئة أو طبقة على فئة أو طبقة أخرى، والتزام النواب يكون سياسياً حزبياً.. لا فئوياً، وليس أدل على ذلك من أن أغلبية العمال والفلاحين فى مجلس الشعب لم تمنعه من إقرار سياسات التراجع عن توسيع قاعدة القطاع العام ولم تمنع خصخصته، ضد رغبة العمال، كما أنها لم تمنع إيقاف امتداد العقود الزراعية وحيازتها وإلغاء القوانين التى كانت تضمن ذلك، ضد رغبة الفلاحين، ولا شك أن انتفاء مبررات هذا الالتزام الدستورى فى وقتنا الحالى – الذى نشأ ضعيف الحجة منذ خمسين عاماً – يعد سبباً كافياً – وحده – لإلغاء هذا النص، بخلاف دواع أخرى كثيرة لإلغائه، فالامتياز بصفة العامل أو الفلاح يعطى صاحبها الحق فى الحصول على فرصتين أمام فرصة واحدة لباقى الفئات عند الترشح فى المجالس التشريعية، وهذا يتعارض مع أغلب مواد الدستور، التى تكرس لحقوق المواطنة والعدالة وتكافؤ الفرص، ثم إن قانون مجلس الشعب اشترط على من يحمل صفة «الفلاح» أن يكون مقيماً فى الريف، وهذا يسهل تدبيره، وأن تكون الزراعة عمله الوحيد ومصدر رزقه الرئيسى، وهذا يصعب إثباته، وألا يحوز هو وزوجته وأولاده القصر ملكاً أو إيجاراً يتعدى عشرة فدادين، وهذا أيضاً يسهل التحايل عليه، أما بالنسبة للعامل فقد عرّفه القانون بأنه من يقوم بعمل يدوى أو ذهنى فى الزراعة، أو الصناعة، أو الخدمات، وأن يكون مصدر دخله الرئيسى هو راتبه»، وهذا يصعب إثباته، ويسهل التحايل عليه، ففتح الباب لمن يريد التحايل فى استغلال هذا التمييز الفئوى، هذا بالإضافة إلى أن العامل - طبقاً للقانون - لا يصح أن يكون من حملة المؤهلات العليا، وهذا الشرط - فى دولة تصبو إلى إحداث نهضة علمية وتعليمية - يصبح وصمة عار، يتعين التخلص منها، ويتعارض مع العدالة بين العمال أنفسهم، فالعامل فى منشأة سياحية الحاصل على شهادة فى السياحة والفنادق مثلاً تنتفى عنه صفة العمال، والأمثلة كثيرة، وعلى العموم أى عامل مهما كانت صنعته ذهنية أو يدوية لا يكتسب هذا الامتياز - طبقاً للقانون - طالما أنه من خريجى الجامعات، لذلك فقد شجع الامتياز الدستورى المنصوص عليه فى المادة 87 كثيراً من المترشحين على التحايل أو الاحتيال لاكتساب صفة العامل أو الفلاح دون وجه حق، وبالإضافة لذلك جعل من الضرورى تقسيم الدوائر بحيث يكون لكل دائرة نائبان، ليكون أحدهما على الأقل من الفلاحين أو العمال، ومنع تقسيم الدوائر إلى دوائر أصغر فى العدد وفى الاتساع، بحيث يكون لكل دائرة نائب واحد، وأنا أعتقد أن ذلك من أكثر نتائج هذا الالتزام الدستورى ضرراً على الحياة السياسية، فهو يتيح لكل نائب إلقاء المسؤولية تجاه الدائرة على النائب الآخر أمام الأهالى، كما أنهما، إن كانا يختلفان فى الاتجاهات السياسية، فإن حصيلة تصويتهما فى المجلس على المستوى القومى قد تكون متعارضة، وهذا يجعل الدائرة كما لو كانت غير ممثلة فى البرلمان. فى الحقيقة أنا لا أجد سبباً وجيهاً لاستمرار الأخذ بهذا النظام، ولا أجد ميزة واحدة للعمال والفلاحين تزول مع إلغائه، وإن كان لابد من احتضان فئة ما سياسياً، فالأولى هو احتضان الشباب، ومنحهم امتياز 50% على الأقل من مقاعد مجلس الشعب، أياً كانت أعمالهم، فهم الذين طال حرمانهم من حماية مصالحهم، وصنع مستقبلهم فى هذه الأيام.