صحيح أن إيطاليا متحف مفتوح، وصحيح أنها بلد الكنائس والمزارات السياحية والتاريخية، لكن يبقى لدولة الفاتيكان فيها دائما مذاقٌ خاص، فهى الدولة الوحيدة التى وضعتها منظمة «اليونسكو» بأكملها على قائمة مواقع التراث العالمى. تلك المدينة الواقعة على الضفة الغربية من نهر «تيبر» تصنع لنفسها حدودا «افتراضية» غير مرئية، وإن كانت محسوسة. فبمجرد أن تجتاز جسر «بونت سانت أنجلو» الشهير وتشرع فى السير على الطريق الطويل المؤدى إلى ساحة القديس «سانت بييترو» أو القديس بيتر (بطرس)، الذى يقود بدوره إلى مبنى الكنيسة، مرورا بقلعة «سانت أنجلو»، بين أعمدة الإنارة المرصوصة على الصفين، حتى تعلن كنيسة أوروبا الكاثوليكية عن نفسها على مرمى البصر. تكشف الكنيسة عن نفسها بقبتها الخضراء المرفوعة على أعمدة رومانية بيضاء، تتوسطها واحدة من المسلات الفرعونية ال 8 الموجودة فى روما، يعلوها صليب، عوضا عن الكرة الذهبية التى كانت تضم رماد «يوليوس قيصر»، والتى انتقلت بطلب من البابا «سيكستوس الخامس» إلى متحف روما. إنك الآن فى قلب أوروبا المسيحى النابض.. الفاتيكان. تعد كاتدرائية «القديس بطرس» الرئيسية الأشهر إعلاميا بقبتها الخضراء، فى حين أن الأعمال الفنية التى تضمها الكنائس الأخرى المجاورة لها أهم تاريخيا. وأهم ما تحتويه الكاتدرائية هو «تمثال بييتا» الذى نحته مايكل أنجلو للسيدة مريم العذراء وهى تضع المسيح على حجرها لحظة إنزاله من الصليب – وفقا للعقيدة المسيحية. ورغم وجود مئات النسخ المقلدة لهذا التمثال الشهير فى مختلف متاحف أوروبا، إلا أن المنحوتة الأصلية تقع يمين القاعة الرئيسية لكنيسة «سانت بييترو»، ويتوافد عليها مئات السياح يوميا، ليلتفوا حولها، ممطرين إياها بسهام الفلاش الخاص بكاميراتهم، خلسة عن أعين الحراس، الذين يجوبون القاعات ليل نهار مرددين بلا طائل «ممنوع التصوير.. ممنوع التصوير». ولعل الركن الأخطر داخل هذه الدولة هو مكتبة الفاتيكان، وقسم الأرشيف السرى، الذى خصصت له الفاتيكان رابطا على موقعها الإلكترونى فى شبكة الإنترنت. وتعد إحدى أقدم المكتبات فى التاريخ، ففى حين أعلن عن تأسيسها رسميا عام 1475، إلا أن تاريخ احتوائها لمجموعة المخطوطات والوثائق التاريخية مختلفة العصور تعود إلى أكثر من ذلك بكثير. وكما هو معلوم عن الفاتيكان، فإنها دولة داخل دولة، بل بهذه الحسبة، هى الأصغر من حيث المساحة، رغم مكانتها الدينية الكبيرة التى يحج إليها كاثوليك العام كله. ومثلما تتخذ لها علما خاصا، فإن رجال الدين فيها يتداولون اللغة اللاتينية فى المراسم والقرارات الرسمية، رغم تحدث الجميع بالإيطالية، كلغة رسمية وشعبية فى البلاد. أما الجنسية الفاتيكانية فتنتهى بانتهاء عمل صاحبها داخل دولة الفاتيكان، وينطبق ذلك بالخصوص على الحرس الخاص السويسريين. فلدولة الفاتيكان جيشها الخاص الذى يعد أقدم جيش نظامى فى العالم ويعرف باسم «الحرس السويسرى»، وهم أيضا الحرس الشخصى للبابا، ولهم زى خاص مميز باللون الأزرق الداكن والبرتقالى والأحمر، وأسس البابا يوليوس الثانى هذا الجيش عام 1506 وكان مكونا من مجموعة من الجنود المرتزقة. وكان ينظر لأرض الفاتيكان قبل إعلانها دولة مستقلة عام 1929 باعتبارها مكانا مقدسا، وفى عام 326 بنيت كنيسة «قسطنطين» فوق ضريح القديس بطرس، فدب النشاط الدينى فى هذه البقعة، ومد الباباوات سيطرتهم إليها تدريجيا، ثم جاء عام 1929 بمعاهدة «لاتيران» بين «الحبر الأعظم»، رئيس السلطة القضائية، وحكومة موسيلينى، على إقامة دولة ذات كيان مستقل يديرها من يقع عليه الاختيار الإلهى ليتبوأ الكرسى الرسولى، فيكون زعيما روحيا لنحو مليار كاثوليكى. بمعنى آخر يرأسها ويديرها «بابا الفاتيكان». وللمدينة سور بنى لحماية البابا من الاعتداءات الخارجية، ورغم أن الخرائط الإيطالية ترسم بوضوح حدود هذا السور، يصر الكثيرون من مريدى الفاتيكان على أنه لا وجود مادياً للسور، مؤكدين أن حدود المدينة الكاثوليكية افتراضية، مردها قدسية المكان وروحانيته. ولا يتجاوز عدد سكان المدينة 800 نسمة، بحسب الموقع الإلكترونى الرسمى لدولة الفاتيكان، بينهم 450 حاصلين على جنسيتها. ويعمل هؤلاء السكان إما فى السلك الكهنوتى لخدمة البابا، أو فى السلك الدبلوماسى لسفاراتها المعتمدة فى الكثير من دول العالم، ومنها إيطاليا نفسها، إضافة إلى العاملين فى المحال السياحية والتجارية وغالبيتهم من خارج دولة الفاتيكان.