«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبل مدينة القدس
نشر في مصر الجديدة يوم 22 - 08 - 2009

في الذكرى الأربعين لمحاولة حرق المسجد الأقصى (أغسطس 1969) ، ومع تصاعد جهود تهويد القدس ، يصبح من حقنا مسلمين ومسيحيين أن نتساءل عن مستقبل المدينة السماوية ، وفي الإجابة عن مثل هذا السؤال ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفصل مستقبل القدس عن مستقبل القضية الفلسطينية ، ولا عن مسيرة الصراع العربي الصهيوني ، كما أنه من الخطورة بمكان أن تختزل القضية الفلسطينية في استعادة القدس ، بما تحتويه من مزارات دينية ومعابد للديانات السماوية الثلاث ، دون تحرير باقي التراب الفلسطيني والقضاء على المشروع الصهيوني ، إذا أدركنا تلك المقدمة ، صار بوسعنا أن نتعامل بشكل علمي عملي مع السؤال الملح : ما هو مستقبل مدينة القدس الشريفة ؟
على المدى القريب ، وحتى تتحرر فلسطين كاملة (إن شاء الله) ، وتعود "مدينة السماء" إلى المؤمنين ، نلمس عدة محددات يرتبط بها مستقبل القدس ، أهمها :
(أ) تمسك الاحتلال الصهيوني بالقدس عاصمة موحدة :
" ليس من حق أحد فينا التفريط في هذه المدينة ، فهي أقدس أقداس اليهود وقد حررناها بثمن باهظ من دماء اليهود ، ولا نسمح لأحد بأن يترك هذه الدماء هدرا .."
(شاءول موفاز رئيس الأركان الأسرائيلي السابق في اجتماع لمجلس الوزراء الصهيوني 19 سبتمبر 2008)
في الوقت الذي يقنع فيه المفاوضون العرب بالقدس الشرقية لتكون عاصمة للدويلة الفلسطينية التي يحلمون بها ، ويتنازلون فيه عن القدس الغربية ، وباقي فلسطين المحتلة ، نجد المحتل الصهيوني يتجاوز الواقع السياسي والجغرافي الذي نتج عن الاحتلال ، وينادي بالقدس الموحدة عاصمة "أبدية " للدولة الصهيونية ، ونجده يحظى في ذلك بالتأييد من الرعاة والحلفاء الغربيين ، وعلى رأسهم الولايات المتحدة ، صحيح أن كلاما دار في الفترة الأخيرة من حكومة أولمرت المنصرفة عن تقاسم المدينة مع الفلسطينيين في إطار تسوية دائمة للصراع ، وأن نقاشات حادة دارت بهذا الشأن في الوسط السياسي الإسرائيلي ، وأن الإذاعة العامة في الدولة الصهيونية نقلت في مارس الماضي تصريحات لأولمرت ، تؤكد أن السلام (الاستسلام) لن يتحقق ما لم يُعطَ الفلسطينيون جزءا من المدينة المقدسة ليكون عاصمة للدويلة الفلسطينية ، ولكن في النهاية يبقى ذلك كله من قبيل الخداع السياسي ، والتصريحات التي تظهر صاحبها في ثوب العقلاني المحب للسلام ، فالواقع ، وطبيعة الدولة الصهيونية ، يجزمان بأن الاحتلال لن يسمح للفلسطينيين بدولة ، وأن الصهاينة لن يتنازلوا عن جزء من القدس ، فمشروع توسعي وظيفي مثل المشروع الصهيوني لا يمكن أن يقبل بحدود ، ولا بكيان سياسي حقيقي للفلسطينيين ، ولا يمكن له بحال أن يتنازل عن المدينة التي يستمد المشروع الصهيوني مشروعيته الدينية منها .
استراتيجيا ، لا تتمتع القدس بالأهمية التي تجعل التمسك بها مصيريا للدولة الصهيونية ، والوزن الحقيقي للمدينة هو الوزن الديني لمدينة تحتوى تراثا لدينيا لأصحاب الديانات السماوية الثلاث الباقية ، والصهيونية الدينية ، التي تمثل ركنا من أركان المشروع الصهيوني ، لا تستطيع التخلي عن حلم "الهيكل " ، الذي يدشن بناؤه تحقيق الوعد التوراتي ، ونبوءات العهد القديم .
جزء كبير من الدعاية للمشروع الصهيوني يقوم على مكانة " أورشليم " في الدولة الصهيونية ، لذا نجد مخططات تهويد المدينة تتسارع ، والعدوان الديموجرافي والمعماري يطرد ، وتحذيرات مفتى المدينة وعلمائها من هدم الأقصى تنطلق من حين لآخر !
تمثل المدينة ، كذلك ، بكنائسها ومزاراتها التابعة للمذاهب المسيحية الثلاث ، موضوعا لعلاقات سياسية واقتصادية مع المؤسسات الدينية الغربية ، فالدولة التي ترعى مقدسات مسيحيي العالم من الطبيعي أن تحظى بالاعتراف من العالم المسيحي ، وأن يُكن لها مسيحيو العالم الغربي المودة ، وأن تتوطد العلاقات بين الفاتيكان (القيادة الروحية العالمية) وبين الدولة الصهيونية ، وأن يزور البابا الأماكن المقدسة تحت حماية اليهود الصهاينة ومباركتهم .
قيام الدولة الصهيونية على المقدسات الدينية في المدينة ، ورعاية تلك المقدسات ، يمثل مكسبا معنويا كبيرا لا يمكن للصهاينة التخلي عنه مختارين بحال من الأحوال ، دعك من المكاسب الاقتصادية من السياحة الدينية التي تتدفق على المدينة ، وما يجاورها من مدن ترتبط في الوجدان الديني المسيحي بعيسى (عليه السلام) ، وحياته في فلسطين .
لهذه الأسباب مجتمعة ، يصعب أن نتخيل أن يتنازل المشروع الصهيوني عن القدس ، أو يقبل بقيام دويلة فلسطينية تتخذها عاصمة لها ، مهما تردد من أقوال الساسة والكتاب والمحللين الصهاينة ، وحتى لو صدق الساسة وقبلوا تقسيم القدس ، فإن الشارع الإسرائيلي في أغلبيته ضد فكرة التقسيم ، استطلاعات الرأي تؤكد ذلك ، واختيارات الإسرائيليين في الانتخابات الأخيرة تؤكد ذلك .
من تلك الاستطلاعات ، استطلاع أجراه مركز "بيجن-السادات" للدراسات الاستراتيجية ، في مارس 2008 ، وكانت النتيجة أن 71% من المستطلعين رفضوا أي تقسيم للمدينة مقابل 21% أيدوا ذلك ، و8% لم يبدوا أي رأي، كما رفض 62% من المستطلعين مناقشة وضع القدس في إطار مفاوضات ما يسمونه "السلام" .
ومع حكومة صهيونية جديدة ، أشد وضوحا وصراحة في احتلالها واغتصابها للحقوق ، ومع أمثال نتنياهو وليبرمان ، يختفى مجرد التلويح بتقسيم المدينة ، فليبرمان حين يرسم حدود مدينة القدس ، يُبقي "الحوض المقدس" تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة مع منح حرية العبادة لأبناء الديانات الثلاث .
"الحوض المقدس" مصطلح صهيوني ، يمثل الحد الأدنى والخطوط الحمراء في التعامل الصهيوني مع قضية القدس ، ويضم "الحوض" ، حسب المصادر اليهودية ، جميع المواقع الدينية اليهودية – التي يدعونها – في القدس ، وهي : البلدة القديمة ، ووادي قدرون ، وجبل الزيتون . هذه المواقع لا يمكن بحال من الأحوال التنازل عنها ، كما قال أولمرت ، وكما قال ليبرمان ، وكما سيقول رؤساء الحكومات التالية ، فماذا يتبقى من القدس بعد هذا الحوض المقدس ؟
نعود ونذكر أننا ضد تقسيم فلسطين ، وليس القدس وحدها ، وضد أي حل لا يعيد فلسطين كاملة لأهلها ، ولكننا نتناول هذا الفرض من باب الجدل مع من يدعون لتقسيم المدينة ، وجعلها عاصمة للدويلة الفلسطينية التي يلهثون خلفها .
(ب) جهود تهويد القدس :
في خطوة نحو إعلان القدس عاصمة للدولة الصهيونية ، وكوسيلة لإضفاء شرعية دينية وتاريخية (زائفة) على تلك الدولة ، يسعى المحتل الصهيوني ، بقوة ، نحو تهويد القدس ، فالهوية العربية الإسلامية التي صبغت القدس منذ عشرات القرون ، تصادم الادعاءات الصهيونية ، وتقاوم المشروع الاستيطاني الصهيوني ، وليتحقق ذلك المشروع في صورته الكبرى ، لابد أن تتغير تلك الهوية ، وأن تنتحل المدينة المقدسة هوية يهودية تاريخية ، وأن يتم ذلك عبر :
الاستيطان ومصادرة الأراضي
.من أهم الخطوات التي يتخذها الاحتلال لتهويد القدس ، زيادة الاستيطان اليهودي في المدينة على حساب أهلها من المسلمين والمسيحيين العرب ، حتى يأتي الوقت الذي تصبح فيه أغلبية سكان المدينة من المستوطنين اليهود ، فيسهل ابتلاعها في المشروع الصهيوني ، وجعلها عاصمة للدولة .
وفي الوقت الذي تتم فيه مصادرة الأراضي المقدسية ، للتوسع في الاستيطان اليهودي ، يقوم الاحتلال بتطويق التجمعات السكنية الفلسطينية والحد من توسعها ، مع تهديد بعض تلك التجمعات بالإزالة ، وبث الرعب في نفوس فلسطيني القدس وضواحيها ، من خلال الاعتداءات المتكررة عليهم من قبل المستوطنين المدججين بالسلاح ، وفي السياق ذاته ، يسعى الاحتلال لعزل القدس وضواحيها عن محيطها الفلسطيني في الشمال والجنوب ، وقطع التواصل الجغرافي بين أنحاء الضفة الغربية ، وتقسيمها لقطع متناثرة ، ليستحيل عمليا أن تكون القدس عاصمة لأي دويلة فلسطينية في الضفة والقطاع .
تهجير الفلسطينيين وسحب الهويات منهم :
فالقدس لن تتسع للمستوطنين اليهود والعرب معا ، وإن كان لا بد أن يرحل أحد الفريقين ، فسيكون التهجير والطرد وسحب الهويات من نصيب العرب يقينا ، وهي السياسة المعتمدة لدى الاحتلال ، لا فارق بين جولدا مائير ، أو شارون ، أو شيمون بيريز ، أو ليبرمان ، وإن كانت جولدا أكثر رفقا بفلسطيني القدس ، فقد أوصت ، وهي رئيسة اللجنة الوزارية لشئون القدس عام 1973 ، بألا يتجاوز الفلسطينيون 22% من مجموع سكان القدس ، أما شارون فقد صرح في الذكرى الثامنة والثلاثين لاحتلال القدس الشرقية (2005) ، بأن القدس ملك لإسرائيل وأنها لن تكون بعد اليوم ملكا للأجانب ، أما بيريز الحريص على رداء صديق العرب ، الراغب في السلام ، فقد سبق أن أعلن ضرورة تهجير العرب من القدس ، وصدرت تصريحات بالمعنى نفسه من ساسة إسرائيليين آخرين .
وها نحن اليوم (*)، وفي الأشهر الماضية ، نرى قوات الاحتلال ترسل الإخطارات لهدم عشرات المنازل العربية في أحياء القدس العريقة ، وطرد مئات الأسر منها، ونرى الحكومة الجديدة نتنياهو/ليبرمان/باراك تعلن مرحلة متقدمة من تهويد القدسس وطرد أهلها ، وتسن قوانين أسوأ من قوانين الطواري والانتداب ، مثل القانون الذي يفرض غرامة باهظة على المقدسي الذي يملك بيتا غير مرخص ، ويقوم بتأجيره أو تسكينه أو منحه لشخص مقدسي آخر حتى لو كان من أفراد العائلة نفسها ، وتفرض الغرامة نفسها على الطرف الآخر ، ويجري هدم البيت لاحقاً.
الحفريات تحت الأقصى:
فإذا كان الأقصى هو الرمز الديني والتاريخي الأكبر في المدينة ، وإن كان من العسير هدمه بشكل مباشر ، خشية عواقب ذلك ، فإن الحفريات حول المسجد ، وفتح الأنفاق تحته ، تعد خطوة تمهيدية ، ووسيلة لتحقيق ذلك الهدف يوما ما ، بشكل قد يبدو قدريا غير متعمد ، وقد شهدت السنوات الخمس الأخيرة تصاعدا في الحفريات ، دعت مؤسسة "الأقصى للوقف والتراث " للتحذير من مضاعفات الحفريات الاسرائيلية تحت محيط المسجد الأقصى ، خاصة بعد الانهيار الذي وقع في مدرسة البنات التابعة للأونروا في الأول من فبراير الماضي (2009) ، على بعد أمتار جنوب الأقصى ، وأعربت المؤسسة عن خشيتها من وقوع انهيارات في المسجد أو المباني المجاورة بسبب الحفريات الخطيرة التي تجري .
وبجانب الحفريات ، هناك الاعتداءات والاقتحامات التي يتعرض لها المسجد من المستوطنين الصهاينة ، وقوات الاحتلال ، والعدوان على المصلين ، وفرض الحصار عليهم ، وغيرها من وسائل التضييق والتعنت .
(ج) الضعف العربي ونهج الاستسلام والتفاوض
في مقابل التمسك الصهيوني بالقدس ، والسعي الدءوب لتهويدها ، نجد العرب الرسميين ، في مجملهم ، يعلنون أن السلام هو خيارهم الاستراتيجي ، الذي لا بديل له ، وأن التفاوض هو وسيلتهم الوحيدة ، وإن كانوا لا يملكون القوة التي تمكنهم من فرض شروطهم على الصهاينة في ذلك التفاوض ! وإن كان التفاوض على جزء من الحق ، ومع قوم لا يفهمون غير لغة القوة ! وإن طال التفاوض عشرات السنين ، ازداد العدو فيها توحشا وعدوانا ! وإن كانت الشعوب العربية في أغلبيتها تؤيد المقاومة وتنادي بها !
بل نجد أنظمة في دول عربية كبرى عربية تحارب المقاومة ، وتنسق مع الدولة الصهيونية والولايات المتحدة في الجهود الرامية لمحاصرة المقاومين ودفعهم لنهج التفاوض والاستسلام !
ومع إن الدول العربية التي صالحت الدولة الصهيونية ، وعقدت معها المعاهدات ، أعلنت أنها تفعل ذلك لالتقاط الأنفاس ، وبناء قوتها الاقتصادية والعسكرية ، بعد أن استنفد الصراع الطويل قواها ، فإن ذلك الهدف المعلن لم يتحقق ، ما حدث هو العكس : تردٍ في مجمل الأوضاع الاقتصادية والسياسية لتلك الدول ، واتساع الفجوة العلمية والعسكرية التي تفصل العرب في مجملهم عن الدولة الصهيونية ، واختلال ميزان القوى اختلالا فادحا ، ينذر باحتمالات بالغة الخطورة في حال نشوب صراع مسلح مع الكيان الصهيوني .
والخلاصة أن العرب ينحدرون من ضعف لضعف ، وأن من عجزوا عن حماية بغداد ، ومقديشيو والخرطوم ، لا يتوقع منهم أن يحرروا فلسطين ، أو جزءا غاليا منها ، كالقدس ، هذا إن توفرت لهم النية ، أساسا .
(د) غياب العالم الإسلامي عن المعادلة :
رغم الموقع الذي تحتله القدس في قلوب مسلمي العالم ، ورغم الأخطار الدائمة التي تهدد المسجد الأقصى ، ورغم أن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي جاء ردا مباشرا على محاولة حرق الأقصى في أغسطس 1969 ، فإن العالم الإسلامي غائب بشكل فعلي عن معادلة الصراع مع الصهيونية وحلفائها ، وهو غياب راجع إلى عدة أسباب ، منها تحالف أنظمة دول مسلمة كبرى مع الكيان الصهيوني ، مثل تركيا ، وسير دول أخرى في الركاب الأمريكي فيما يخص فلسطين ، والسعي المتواصل لعزل القضية الفلسطينية عن بعديها العربي والإسلامي ، بجعلها صراعا محليا بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، يقوم فيه العرب والمسلمون بدور الوساطة ، وعجز منظمة المؤتمر الإسلامي عن أي دور حقيقي في قضايا العالم الإسلامي ، وهو ما نتج عنه في مجمله غياب الرؤية الموحدة التي تجمع العالم الإسلامي فيما يخص القضية الفلسطينية ، وغياب الخطة التي تعين على استعادة فلسطين ، وفي القلب منها القدس .
(ه) موقف العالم المسيحي :
من الواضح أن العلاقة بين الدولة الصهيونية والفاتيكان تتوثق يوما بعد يوم ، فبعد أن برأ الفاتيكان اليهود من دم المسيح في سنة 1965 ، كانت الخطوة المهمة الثانية : زيارة البابا الراحل (يوحنا بولس الثاني) لمعبد يهودي في روما 1986 ، والتي مثلت سابقة تاريخية فريدة من نوعها في التاريخ الكاثوليكي . وفي سنة 1994 بدأت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين الفاتيكان والدولة الصهيونية ، ومع مطلع الألفية الميلادية الثالثة ، وزيارة البابا الراحل يوحنا بولس للدولة الصهيونية ، آنذاك ، بدأت العلاقات الرسمية بين مجمع الحاخامية الكبرى لإسرائيل وبين الفاتيكان ، وقد قام البابا الحالي بزيارتين لمعبدين يهوديين : في كولونيا بألمانيا (2005) ، ونيويورك (2008) ، وفي مايو / أيار من العام الحالي جرت زيارته الأولى للكيان الصهيوني ، تحت شعار الحج للأماكن المقدسة في القدس وما حولها .
ولا شك أن تلك العلاقات في صالح المشروع الصهيوني في المقام الأول ، يحقق من ورائها مكاسب سياسية ودعائية كبيرة ، والأهم أنه يحيد الفاتيكان ، المرجعية الروحية لأغلبية مسيحيي العالم ، في قضية الصراع العربي الصهيوني ، وربما جعله يميل لكفة الصهاينة باعتبارهم القائمين على المقدسات المسيحية في فلسطين المحتلة ، وفي القلب منها القدس ، ويكفي أن الفاتيكان يعترف بالدولة الصهيونية ويعقد معها الاتفاقيات .
أما عن البروتستانت ، الذين يمثلون الأغلبية في دول استعمارية كبرى ، مثل : الولايات المتحدة ، وبريطانيا ، فقد تنامى بينهم ما يسمى ب " المسيحية الصهيونية " ، التي ترى في مناصرة الدولة الصهيونية واجبا دينيا ، يعجل بنزول المسيح الذي ينتظرونه ، ولا يتوقع من هؤلاء في مجملهم أي مناصرة حقيقية للعرب والمسلمين في قضية القدس ، أو قضية فلسطين عموما ، فغالبية البريطانيين والأمريكيين على مر العقود يؤيدون الكيان الصهيوني .
قد يختلف مسيحيو الشرق العربي في موقفهم من الدولة الصهيونية ، وقد يأخذ مسيحيو مصر موقفا إيجابيا من القضية الفلسطينية ، ولكن يبقى هؤلاء أصحاب صوت ضعيف ، وينعكس عليهم الضعف العام الذي اعترى الأمة العربية منذ أمد ، ويصب تحركهم من أجل القدس في مجمل الجهود العربية من أجل تلك القضية ، وهي جهود نعرف حجمها ، والمتوقع منها .
المقاومة هي الحل :
إذا كانت أغلب المحددات التي ذكرناها في غير صالح القضية الفلسطينية ، وفي القلب منها القدس ، فما السلاح الأخير الذي يملكه العرب والمسلمون في صراعهم مع الصهيونية ؟
إنه السلاح الوحيد الذي يفهمه الصهاينة ، اللغة الوحيدة التي يستوعبونها ، والمنطق الوحيد الذي يقنعهم : سلاح المقاومة .
لقد مرت الأمة بظروف مشابهة ، وربما أشد قسوة ، في تاريخها الطويل ، وليست تجربة الحروب الصليبية منا ببعيد ، ولكن لم يحدث في تاريخنا أن تعرضت المقاومة للتشويه والمحاربة كما يحدث الآن ، كان الملوك والأمراء يتحالفون مع الصليبيين ويقاتلون معهم ، ولكن كان الجميع يعرف ، والصليبيون أنفسهم ، أنها مرحلة وستمر ، وأن الأرض المحتلة ستعود لأصحابها ، ولم يكن في مقدور حاكم عربي واحد أن يسلم بحق المحتل في الأرض ، أو يهنئه على قيام دولة الاحتلال ، أو يعلن أن " السلام " خيار استراتيجي ، ويدعو لقبول الكيان الغاصب في نسيج الأمة ، ولم يكن بوسع فقهاء السلطان في ذلك الزمن أن يصدروا فتاوى الاعتراف بالاحتلال والتطبيع معه ، أو يصافحوا قادة العدو بحرارة وترحاب ، كانت الأنظمة تتفاوت في نهجها مع المحتلين ، حربا ومصالحة ، ولكن في النهاية يبقى أمل التحرير والخلاص ، لا أن تتفاوت في علاقاتها مع العدو ، والرضا بما يقدمه لها كما يحدث يوم ! بقي مبدأ المقاومة /الجهاد ، وظل العلماء والمربون يهيئون النفوس ليوم التحرير ، حتى ظهر القادة الذين حملوا اللواء ، وقادوا المقاومة الشعبية ، وحرروا الأرض .
هناك جهود محمومة لتصفية القضية الفلسطينية ، وتثبيت الكيان الصهيوني في المنطقة ، وجعله جزءا "طبيعيا" منها ، وصار قيام دويلة فلسطينية في الضفة والقطاع حلما ، وشعارا مرفوعا ، يمثل أقصى الأماني في الصراع ، ويتولى الإعلام الحكومي الإلحاح على هذا الشعار ، باعتباره الحل الوحيد والممكن ، بل باعتباره :الحل العادل" ، وكأن تحرير فلسطين وعودتها لأهلها ظلم وجور ، وكأنه ميراث يقسم بين الأشقاء !
وللاسف استطاعت هذه الفكرة أن تغزو عقول العامة ، مع اليأس والإحباط الذي يخيم على النفوس ، بل عقول كثير من المثقفين الوطنيين في بلاد العروبة والإسلام ، تحت شعار "الواقعية " ، و"الحلول الممكنة " ، وربما أراد البعض أن يخفف من الفكرة ، فيقول إنه يقبل التقسيم مرحليا ، حتى تتهيأ ظروف التحرير الكامل والشامل ، وبذلك ينجو من الملامة والتشكيك في موقفه . ويبقى المطالبون بالحق الفلسطيني الكامل قابضين على الجمر ، متمسكين بالتحرير الكامل كواجب تمليه العقيدة والشرف والضمير الوطني ، ربما أصبحوا أقلية في النخبة ، ولكن الأمة ستسير خلفهم حتما ، إذا جد الجد ، وتغيرت الظروف ، وخفت القيود .
لا مستقبل للقدس بغير تحرير فلسطين ، وقد علمنا التاريخ أن القدس تكون آخر مدن فلسطين احتلال ، وآخرها تحريرا ، ولا تحرير بغير المقاومة ، فهل نجد في حكام الأمة اليوم من يصنع منبرا للأقصى ليخطب عليه يوم التحرير ، كما فعل نور الدين محمود زنكي ؟ ..أشك كثيرا ، ولكني لا أيأس من روح الله .
في الذكرى الأربعين لمحاولة حرق المسجد الأقصى (أغسطس 1969) ، ومع تصاعد جهود تهويد القدس ، يصبح من حقنا مسلمين ومسيحيين أن نتساءل عن مستقبل المدينة السماوية ، وفي الإجابة عن مثل هذا السؤال ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفصل مستقبل القدس عن مستقبل القضية الفلسطينية ، ولا عن مسيرة الصراع العربي الصهيوني ، كما أنه من الخطورة بمكان أن تختزل القضية الفلسطينية في استعادة القدس ، بما تحتويه من مزارات دينية ومعابد للديانات السماوية الثلاث ، دون تحرير باقي التراب الفلسطيني والقضاء على المشروع الصهيوني ، إذا أدركنا تلك المقدمة ، صار بوسعنا أن نتعامل بشكل علمي عملي مع السؤال الملح : ما هو مستقبل مدينة القدس الشريفة ؟
على المدى القريب ، وحتى تتحرر فلسطين كاملة (إن شاء الله) ، وتعود "مدينة السماء" إلى المؤمنين ، نلمس عدة محددات يرتبط بها مستقبل القدس ، أهمها :
(أ) تمسك الاحتلال الصهيوني بالقدس عاصمة موحدة :
" ليس من حق أحد فينا التفريط في هذه المدينة ، فهي أقدس أقداس اليهود وقد حررناها بثمن باهظ من دماء اليهود ، ولا نسمح لأحد بأن يترك هذه الدماء هدرا .."
(شاءول موفاز رئيس الأركان الأسرائيلي السابق في اجتماع لمجلس الوزراء الصهيوني 19 سبتمبر 2008)
في الوقت الذي يقنع فيه المفاوضون العرب بالقدس الشرقية لتكون عاصمة للدويلة الفلسطينية التي يحلمون بها ، ويتنازلون فيه عن القدس الغربية ، وباقي فلسطين المحتلة ، نجد المحتل الصهيوني يتجاوز الواقع السياسي والجغرافي الذي نتج عن الاحتلال ، وينادي بالقدس الموحدة عاصمة "أبدية " للدولة الصهيونية ، ونجده يحظى في ذلك بالتأييد من الرعاة والحلفاء الغربيين ، وعلى رأسهم الولايات المتحدة ، صحيح أن كلاما دار في الفترة الأخيرة من حكومة أولمرت المنصرفة عن تقاسم المدينة مع الفلسطينيين في إطار تسوية دائمة للصراع ، وأن نقاشات حادة دارت بهذا الشأن في الوسط السياسي الإسرائيلي ، وأن الإذاعة العامة في الدولة الصهيونية نقلت في مارس الماضي تصريحات لأولمرت ، تؤكد أن السلام (الاستسلام) لن يتحقق ما لم يُعطَ الفلسطينيون جزءا من المدينة المقدسة ليكون عاصمة للدويلة الفلسطينية ، ولكن في النهاية يبقى ذلك كله من قبيل الخداع السياسي ، والتصريحات التي تظهر صاحبها في ثوب العقلاني المحب للسلام ، فالواقع ، وطبيعة الدولة الصهيونية ، يجزمان بأن الاحتلال لن يسمح للفلسطينيين بدولة ، وأن الصهاينة لن يتنازلوا عن جزء من القدس ، فمشروع توسعي وظيفي مثل المشروع الصهيوني لا يمكن أن يقبل بحدود ، ولا بكيان سياسي حقيقي للفلسطينيين ، ولا يمكن له بحال أن يتنازل عن المدينة التي يستمد المشروع الصهيوني مشروعيته الدينية منها .
استراتيجيا ، لا تتمتع القدس بالأهمية التي تجعل التمسك بها مصيريا للدولة الصهيونية ، والوزن الحقيقي للمدينة هو الوزن الديني لمدينة تحتوى تراثا لدينيا لأصحاب الديانات السماوية الثلاث الباقية ، والصهيونية الدينية ، التي تمثل ركنا من أركان المشروع الصهيوني ، لا تستطيع التخلي عن حلم "الهيكل " ، الذي يدشن بناؤه تحقيق الوعد التوراتي ، ونبوءات العهد القديم .
جزء كبير من الدعاية للمشروع الصهيوني يقوم على مكانة " أورشليم " في الدولة الصهيونية ، لذا نجد مخططات تهويد المدينة تتسارع ، والعدوان الديموجرافي والمعماري يطرد ، وتحذيرات مفتى المدينة وعلمائها من هدم الأقصى تنطلق من حين لآخر !
تمثل المدينة ، كذلك ، بكنائسها ومزاراتها التابعة للمذاهب المسيحية الثلاث ، موضوعا لعلاقات سياسية واقتصادية مع المؤسسات الدينية الغربية ، فالدولة التي ترعى مقدسات مسيحيي العالم من الطبيعي أن تحظى بالاعتراف من العالم المسيحي ، وأن يُكن لها مسيحيو العالم الغربي المودة ، وأن تتوطد العلاقات بين الفاتيكان (القيادة الروحية العالمية) وبين الدولة الصهيونية ، وأن يزور البابا الأماكن المقدسة تحت حماية اليهود الصهاينة ومباركتهم .
قيام الدولة الصهيونية على المقدسات الدينية في المدينة ، ورعاية تلك المقدسات ، يمثل مكسبا معنويا كبيرا لا يمكن للصهاينة التخلي عنه مختارين بحال من الأحوال ، دعك من المكاسب الاقتصادية من السياحة الدينية التي تتدفق على المدينة ، وما يجاورها من مدن ترتبط في الوجدان الديني المسيحي بعيسى (عليه السلام) ، وحياته في فلسطين .
لهذه الأسباب مجتمعة ، يصعب أن نتخيل أن يتنازل المشروع الصهيوني عن القدس ، أو يقبل بقيام دويلة فلسطينية تتخذها عاصمة لها ، مهما تردد من أقوال الساسة والكتاب والمحللين الصهاينة ، وحتى لو صدق الساسة وقبلوا تقسيم القدس ، فإن الشارع الإسرائيلي في أغلبيته ضد فكرة التقسيم ، استطلاعات الرأي تؤكد ذلك ، واختيارات الإسرائيليين في الانتخابات الأخيرة تؤكد ذلك .
من تلك الاستطلاعات ، استطلاع أجراه مركز "بيجن-السادات" للدراسات الاستراتيجية ، في مارس 2008 ، وكانت النتيجة أن 71% من المستطلعين رفضوا أي تقسيم للمدينة مقابل 21% أيدوا ذلك ، و8% لم يبدوا أي رأي، كما رفض 62% من المستطلعين مناقشة وضع القدس في إطار مفاوضات ما يسمونه "السلام" .
ومع حكومة صهيونية جديدة ، أشد وضوحا وصراحة في احتلالها واغتصابها للحقوق ، ومع أمثال نتنياهو وليبرمان ، يختفى مجرد التلويح بتقسيم المدينة ، فليبرمان حين يرسم حدود مدينة القدس ، يُبقي "الحوض المقدس" تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة مع منح حرية العبادة لأبناء الديانات الثلاث .
"الحوض المقدس" مصطلح صهيوني ، يمثل الحد الأدنى والخطوط الحمراء في التعامل الصهيوني مع قضية القدس ، ويضم "الحوض" ، حسب المصادر اليهودية ، جميع المواقع الدينية اليهودية – التي يدعونها – في القدس ، وهي : البلدة القديمة ، ووادي قدرون ، وجبل الزيتون . هذه المواقع لا يمكن بحال من الأحوال التنازل عنها ، كما قال أولمرت ، وكما قال ليبرمان ، وكما سيقول رؤساء الحكومات التالية ، فماذا يتبقى من القدس بعد هذا الحوض المقدس ؟
نعود ونذكر أننا ضد تقسيم فلسطين ، وليس القدس وحدها ، وضد أي حل لا يعيد فلسطين كاملة لأهلها ، ولكننا نتناول هذا الفرض من باب الجدل مع من يدعون لتقسيم المدينة ، وجعلها عاصمة للدويلة الفلسطينية التي يلهثون خلفها .
(ب) جهود تهويد القدس :
في خطوة نحو إعلان القدس عاصمة للدولة الصهيونية ، وكوسيلة لإضفاء شرعية دينية وتاريخية (زائفة) على تلك الدولة ، يسعى المحتل الصهيوني ، بقوة ، نحو تهويد القدس ، فالهوية العربية الإسلامية التي صبغت القدس منذ عشرات القرون ، تصادم الادعاءات الصهيونية ، وتقاوم المشروع الاستيطاني الصهيوني ، وليتحقق ذلك المشروع في صورته الكبرى ، لابد أن تتغير تلك الهوية ، وأن تنتحل المدينة المقدسة هوية يهودية تاريخية ، وأن يتم ذلك عبر :
الاستيطان ومصادرة الأراضي
.من أهم الخطوات التي يتخذها الاحتلال لتهويد القدس ، زيادة الاستيطان اليهودي في المدينة على حساب أهلها من المسلمين والمسيحيين العرب ، حتى يأتي الوقت الذي تصبح فيه أغلبية سكان المدينة من المستوطنين اليهود ، فيسهل ابتلاعها في المشروع الصهيوني ، وجعلها عاصمة للدولة .
وفي الوقت الذي تتم فيه مصادرة الأراضي المقدسية ، للتوسع في الاستيطان اليهودي ، يقوم الاحتلال بتطويق التجمعات السكنية الفلسطينية والحد من توسعها ، مع تهديد بعض تلك التجمعات بالإزالة ، وبث الرعب في نفوس فلسطيني القدس وضواحيها ، من خلال الاعتداءات المتكررة عليهم من قبل المستوطنين المدججين بالسلاح ، وفي السياق ذاته ، يسعى الاحتلال لعزل القدس وضواحيها عن محيطها الفلسطيني في الشمال والجنوب ، وقطع التواصل الجغرافي بين أنحاء الضفة الغربية ، وتقسيمها لقطع متناثرة ، ليستحيل عمليا أن تكون القدس عاصمة لأي دويلة فلسطينية في الضفة والقطاع .
تهجير الفلسطينيين وسحب الهويات منهم :
فالقدس لن تتسع للمستوطنين اليهود والعرب معا ، وإن كان لا بد أن يرحل أحد الفريقين ، فسيكون التهجير والطرد وسحب الهويات من نصيب العرب يقينا ، وهي السياسة المعتمدة لدى الاحتلال ، لا فارق بين جولدا مائير ، أو شارون ، أو شيمون بيريز ، أو ليبرمان ، وإن كانت جولدا أكثر رفقا بفلسطيني القدس ، فقد أوصت ، وهي رئيسة اللجنة الوزارية لشئون القدس عام 1973 ، بألا يتجاوز الفلسطينيون 22% من مجموع سكان القدس ، أما شارون فقد صرح في الذكرى الثامنة والثلاثين لاحتلال القدس الشرقية (2005) ، بأن القدس ملك لإسرائيل وأنها لن تكون بعد اليوم ملكا للأجانب ، أما بيريز الحريص على رداء صديق العرب ، الراغب في السلام ، فقد سبق أن أعلن ضرورة تهجير العرب من القدس ، وصدرت تصريحات بالمعنى نفسه من ساسة إسرائيليين آخرين .
وها نحن اليوم (*)، وفي الأشهر الماضية ، نرى قوات الاحتلال ترسل الإخطارات لهدم عشرات المنازل العربية في أحياء القدس العريقة ، وطرد مئات الأسر منها، ونرى الحكومة الجديدة نتنياهو/ليبرمان/باراك تعلن مرحلة متقدمة من تهويد القدسس وطرد أهلها ، وتسن قوانين أسوأ من قوانين الطواري والانتداب ، مثل القانون الذي يفرض غرامة باهظة على المقدسي الذي يملك بيتا غير مرخص ، ويقوم بتأجيره أو تسكينه أو منحه لشخص مقدسي آخر حتى لو كان من أفراد العائلة نفسها ، وتفرض الغرامة نفسها على الطرف الآخر ، ويجري هدم البيت لاحقاً.
الحفريات تحت الأقصى:
فإذا كان الأقصى هو الرمز الديني والتاريخي الأكبر في المدينة ، وإن كان من العسير هدمه بشكل مباشر ، خشية عواقب ذلك ، فإن الحفريات حول المسجد ، وفتح الأنفاق تحته ، تعد خطوة تمهيدية ، ووسيلة لتحقيق ذلك الهدف يوما ما ، بشكل قد يبدو قدريا غير متعمد ، وقد شهدت السنوات الخمس الأخيرة تصاعدا في الحفريات ، دعت مؤسسة "الأقصى للوقف والتراث " للتحذير من مضاعفات الحفريات الاسرائيلية تحت محيط المسجد الأقصى ، خاصة بعد الانهيار الذي وقع في مدرسة البنات التابعة للأونروا في الأول من فبراير الماضي (2009) ، على بعد أمتار جنوب الأقصى ، وأعربت المؤسسة عن خشيتها من وقوع انهيارات في المسجد أو المباني المجاورة بسبب الحفريات الخطيرة التي تجري .
وبجانب الحفريات ، هناك الاعتداءات والاقتحامات التي يتعرض لها المسجد من المستوطنين الصهاينة ، وقوات الاحتلال ، والعدوان على المصلين ، وفرض الحصار عليهم ، وغيرها من وسائل التضييق والتعنت .
(ج) الضعف العربي ونهج الاستسلام والتفاوض
في مقابل التمسك الصهيوني بالقدس ، والسعي الدءوب لتهويدها ، نجد العرب الرسميين ، في مجملهم ، يعلنون أن السلام هو خيارهم الاستراتيجي ، الذي لا بديل له ، وأن التفاوض هو وسيلتهم الوحيدة ، وإن كانوا لا يملكون القوة التي تمكنهم من فرض شروطهم على الصهاينة في ذلك التفاوض ! وإن كان التفاوض على جزء من الحق ، ومع قوم لا يفهمون غير لغة القوة ! وإن طال التفاوض عشرات السنين ، ازداد العدو فيها توحشا وعدوانا ! وإن كانت الشعوب العربية في أغلبيتها تؤيد المقاومة وتنادي بها !
بل نجد أنظمة في دول عربية كبرى عربية تحارب المقاومة ، وتنسق مع الدولة الصهيونية والولايات المتحدة في الجهود الرامية لمحاصرة المقاومين ودفعهم لنهج التفاوض والاستسلام !
ومع إن الدول العربية التي صالحت الدولة الصهيونية ، وعقدت معها المعاهدات ، أعلنت أنها تفعل ذلك لالتقاط الأنفاس ، وبناء قوتها الاقتصادية والعسكرية ، بعد أن استنفد الصراع الطويل قواها ، فإن ذلك الهدف المعلن لم يتحقق ، ما حدث هو العكس : تردٍ في مجمل الأوضاع الاقتصادية والسياسية لتلك الدول ، واتساع الفجوة العلمية والعسكرية التي تفصل العرب في مجملهم عن الدولة الصهيونية ، واختلال ميزان القوى اختلالا فادحا ، ينذر باحتمالات بالغة الخطورة في حال نشوب صراع مسلح مع الكيان الصهيوني .
والخلاصة أن العرب ينحدرون من ضعف لضعف ، وأن من عجزوا عن حماية بغداد ، ومقديشيو والخرطوم ، لا يتوقع منهم أن يحرروا فلسطين ، أو جزءا غاليا منها ، كالقدس ، هذا إن توفرت لهم النية ، أساسا .
(د) غياب العالم الإسلامي عن المعادلة :
رغم الموقع الذي تحتله القدس في قلوب مسلمي العالم ، ورغم الأخطار الدائمة التي تهدد المسجد الأقصى ، ورغم أن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي جاء ردا مباشرا على محاولة حرق الأقصى في أغسطس 1969 ، فإن العالم الإسلامي غائب بشكل فعلي عن معادلة الصراع مع الصهيونية وحلفائها ، وهو غياب راجع إلى عدة أسباب ، منها تحالف أنظمة دول مسلمة كبرى مع الكيان الصهيوني ، مثل تركيا ، وسير دول أخرى في الركاب الأمريكي فيما يخص فلسطين ، والسعي المتواصل لعزل القضية الفلسطينية عن بعديها العربي والإسلامي ، بجعلها صراعا محليا بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، يقوم فيه العرب والمسلمون بدور الوساطة ، وعجز منظمة المؤتمر الإسلامي عن أي دور حقيقي في قضايا العالم الإسلامي ، وهو ما نتج عنه في مجمله غياب الرؤية الموحدة التي تجمع العالم الإسلامي فيما يخص القضية الفلسطينية ، وغياب الخطة التي تعين على استعادة فلسطين ، وفي القلب منها القدس .
(ه) موقف العالم المسيحي :
من الواضح أن العلاقة بين الدولة الصهيونية والفاتيكان تتوثق يوما بعد يوم ، فبعد أن برأ الفاتيكان اليهود من دم المسيح في سنة 1965 ، كانت الخطوة المهمة الثانية : زيارة البابا الراحل (يوحنا بولس الثاني) لمعبد يهودي في روما 1986 ، والتي مثلت سابقة تاريخية فريدة من نوعها في التاريخ الكاثوليكي . وفي سنة 1994 بدأت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين الفاتيكان والدولة الصهيونية ، ومع مطلع الألفية الميلادية الثالثة ، وزيارة البابا الراحل يوحنا بولس للدولة الصهيونية ، آنذاك ، بدأت العلاقات الرسمية بين مجمع الحاخامية الكبرى لإسرائيل وبين الفاتيكان ، وقد قام البابا الحالي بزيارتين لمعبدين يهوديين : في كولونيا بألمانيا (2005) ، ونيويورك (2008) ، وفي مايو / أيار من العام الحالي جرت زيارته الأولى للكيان الصهيوني ، تحت شعار الحج للأماكن المقدسة في القدس وما حولها .
ولا شك أن تلك العلاقات في صالح المشروع الصهيوني في المقام الأول ، يحقق من ورائها مكاسب سياسية ودعائية كبيرة ، والأهم أنه يحيد الفاتيكان ، المرجعية الروحية لأغلبية مسيحيي العالم ، في قضية الصراع العربي الصهيوني ، وربما جعله يميل لكفة الصهاينة باعتبارهم القائمين على المقدسات المسيحية في فلسطين المحتلة ، وفي القلب منها القدس ، ويكفي أن الفاتيكان يعترف بالدولة الصهيونية ويعقد معها الاتفاقيات .
أما عن البروتستانت ، الذين يمثلون الأغلبية في دول استعمارية كبرى ، مثل : الولايات المتحدة ، وبريطانيا ، فقد تنامى بينهم ما يسمى ب " المسيحية الصهيونية " ، التي ترى في مناصرة الدولة الصهيونية واجبا دينيا ، يعجل بنزول المسيح الذي ينتظرونه ، ولا يتوقع من هؤلاء في مجملهم أي مناصرة حقيقية للعرب والمسلمين في قضية القدس ، أو قضية فلسطين عموما ، فغالبية البريطانيين والأمريكيين على مر العقود يؤيدون الكيان الصهيوني .
قد يختلف مسيحيو الشرق العربي في موقفهم من الدولة الصهيونية ، وقد يأخذ مسيحيو مصر موقفا إيجابيا من القضية الفلسطينية ، ولكن يبقى هؤلاء أصحاب صوت ضعيف ، وينعكس عليهم الضعف العام الذي اعترى الأمة العربية منذ أمد ، ويصب تحركهم من أجل القدس في مجمل الجهود العربية من أجل تلك القضية ، وهي جهود نعرف حجمها ، والمتوقع منها .
المقاومة هي الحل :
إذا كانت أغلب المحددات التي ذكرناها في غير صالح القضية الفلسطينية ، وفي القلب منها القدس ، فما السلاح الأخير الذي يملكه العرب والمسلمون في صراعهم مع الصهيونية ؟
إنه السلاح الوحيد الذي يفهمه الصهاينة ، اللغة الوحيدة التي يستوعبونها ، والمنطق الوحيد الذي يقنعهم : سلاح المقاومة .
لقد مرت الأمة بظروف مشابهة ، وربما أشد قسوة ، في تاريخها الطويل ، وليست تجربة الحروب الصليبية منا ببعيد ، ولكن لم يحدث في تاريخنا أن تعرضت المقاومة للتشويه والمحاربة كما يحدث الآن ، كان الملوك والأمراء يتحالفون مع الصليبيين ويقاتلون معهم ، ولكن كان الجميع يعرف ، والصليبيون أنفسهم ، أنها مرحلة وستمر ، وأن الأرض المحتلة ستعود لأصحابها ، ولم يكن في مقدور حاكم عربي واحد أن يسلم بحق المحتل في الأرض ، أو يهنئه على قيام دولة الاحتلال ، أو يعلن أن " السلام " خيار استراتيجي ، ويدعو لقبول الكيان الغاصب في نسيج الأمة ، ولم يكن بوسع فقهاء السلطان في ذلك الزمن أن يصدروا فتاوى الاعتراف بالاحتلال والتطبيع معه ، أو يصافحوا قادة العدو بحرارة وترحاب ، كانت الأنظمة تتفاوت في نهجها مع المحتلين ، حربا ومصالحة ، ولكن في النهاية يبقى أمل التحرير والخلاص ، لا أن تتفاوت في علاقاتها مع العدو ، والرضا بما يقدمه لها كما يحدث يوم ! بقي مبدأ المقاومة /الجهاد ، وظل العلماء والمربون يهيئون النفوس ليوم التحرير ، حتى ظهر القادة الذين حملوا اللواء ، وقادوا المقاومة الشعبية ، وحرروا الأرض .
هناك جهود محمومة لتصفية القضية الفلسطينية ، وتثبيت الكيان الصهيوني في المنطقة ، وجعله جزءا "طبيعيا" منها ، وصار قيام دويلة فلسطينية في الضفة والقطاع حلما ، وشعارا مرفوعا ، يمثل أقصى الأماني في الصراع ، ويتولى الإعلام الحكومي الإلحاح على هذا الشعار ، باعتباره الحل الوحيد والممكن ، بل باعتباره :الحل العادل" ، وكأن تحرير فلسطين وعودتها لأهلها ظلم وجور ، وكأنه ميراث يقسم بين الأشقاء !
وللاسف استطاعت هذه الفكرة أن تغزو عقول العامة ، مع اليأس والإحباط الذي يخيم على النفوس ، بل عقول كثير من المثقفين الوطنيين في بلاد العروبة والإسلام ، تحت شعار "الواقعية " ، و"الحلول الممكنة " ، وربما أراد البعض أن يخفف من الفكرة ، فيقول إنه يقبل التقسيم مرحليا ، حتى تتهيأ ظروف التحرير الكامل والشامل ، وبذلك ينجو من الملامة والتشكيك في موقفه . ويبقى المطالبون بالحق الفلسطيني الكامل قابضين على الجمر ، متمسكين بالتحرير الكامل كواجب تمليه العقيدة والشرف والضمير الوطني ، ربما أصبحوا أقلية في النخبة ، ولكن الأمة ستسير خلفهم حتما ، إذا جد الجد ، وتغيرت الظروف ، وخفت القيود .
لا مستقبل للقدس بغير تحرير فلسطين ، وقد علمنا التاريخ أن القدس تكون آخر مدن فلسطين احتلال ، وآخرها تحريرا ، ولا تحرير بغير المقاومة ، فهل نجد في حكام الأمة اليوم من يصنع منبرا للأقصى ليخطب عليه يوم التحرير ، كما فعل نور الدين محمود زنكي ؟ ..أشك كثيرا ، ولكني لا أيأس من روح الله .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.