قدت سيارتى على مدى أكثر من ثلاث ساعات من نيويورك إلى بوسطن، لحضور لقاء الدكتور محمد البرادعى مع أبناء الجالية المصرية. كان اللقاء مقررا بإحدى قاعات جامعة هارفرد، لكن تم نقله إلى أحد الفنادق القريبة، حيث قيل لنا إن القاعة لا تسع الحاضرين. فى الفندق وجدت أن عددهم ربما يتجاوز مائة وخمسين شخصا، أغلبهم من أبناء المنطقة، وطلبة وأساتذة بجامعة هارفرد، لكنى وجدت أيضا نسبة لا بأس بها من القادمين بالطائرة من ولايات بعيدة أو كندا، وهو ما يكشف عن مدى حماسهم للمشاركة فى عملية التغيير السياسى فى مصر، التى أصبح البرادعى - بمشيئته أو رغم أنفه - رمزا لها. لم أكن أريد رؤية البرادعى كشخص، فقد سبق أن أجريت معه لقاء تليفزيونيا فى واشنطن بعد أيام من فوزه بجائزة نوبل، كما أننى رأيته يتحدث فى بعض المناسبات والمؤتمرات الصحفية. كان البرادعى الذى رأيته حينها دبلوماسيا متمكنا يجيد اختيار كلماته بدقة، ويعرف كيف يزن مواقفه فى قضايا شائكة وتمس قوى دولية وإقليمية عتيدة.. لكنى أردت أن أرى البرادعى الجديد، وأن ألمس بنفسى كيف تحول من الدبلوماسية إلى العمل السياسى، هذا التحول يحتاج إلى أمرين: أحدهما ظاهرى يتمثل فى لغة الخطاب وأسلوب الأداء. والآخر يرتبط بكيفية التفاعل مع أطراف اللعبة الداخلية فى مصر من حكومة ومعارضة. وقد لاحظت أنه أبعد نفسه عن بعض رموز المعارضة التقليديين فى الولاياتالمتحدة الذين نجحت حملات التشويه فى رسم صورة سلبية لهم داخل مصر. فبصرف النظر عن صدق أو كذب هذه الصورة، إلا أن الارتباط بها سيعطى فرصة للنظام للإساءة إليه، وهو ما تنبه إليه بذكاء. أثناء اللقاء سأله البعض عن موقفه من الإسلاميين أو الأقباط.. وقد لعبها بدبلوماسية حين دافع عن حقوق الأقباط بينما فتح الباب لمشاركة الإسلاميين طالما قبلوا بقواعد اللعبة السياسية، فحظى بتصفيق الطرفين. طلب منه الحاضرون أن يرشح نفسه للرئاسة.. قالت له فتاة فى العشرين إنها لأول مرة تهتم بالسياسة، وطلبت منه فتاة فى الخامسة عشرة أن يهتم بأطفال الشوارع الذين تحزن لرؤيتهم عند زيارتها لمصر. تابعت ردوده، وراقبت جلسته وانحناءته على المنصة.. نظرته إلى الناس وتفاعله معهم. الرجل يبدو مهذبا للغاية، وهو بالفعل شخصية محترمة، لكنه لايزال يتحدث كدبلوماسى، وليس كرجل سياسة مهمته الأساسية حشد التأييد، وتحريك الجماهير. أمور تبدو شكلية لكنها أساسية للعمل السياسى. فهو لم يبال كثيرا بالتعرف الشخصى على الحاضرين، أو معرفة ما يقومون به أو توجيههم لعمل أشياء محددة، وعندما تحدث إليهم كانت لغته هى نفسها التى استمعت إليها منذ سنوات رغم اختلاف الموضوعات، فهو يطالب مؤيديه بتوضيح الارتباط بين التغيير السياسى والدستورى المطلوب وبين تلبية احتياجات الناس فى حياتهم اليومية، وهو ارتباط حقيقى، لكن البرادعى نفسه لا يوضحه. فهو لايزال يستخدم إحصاءات وبيانات المنظمات الدولية عن الأوضاع فى مصر، دون ترجمة ذلك إلى لحم ودم بلغة تقربه إلى رجل الشارع. هذه المشكلة واجهت باراك أوباما فى بداية حملته الانتخابية حيث كانت تغلب عليه لغة أستاذ القانون الدستورى، لكنه تعلم مع الوقت، ساعده على ذلك الكاريزما الإلهية، وقدرته الخطابية الهائلة. هذه الأمور جزء منها موهبة، لكن بعضها يمكن اكتسابه. وأذكر أنى شاركت مرة فى برنامج ألمانى لتدريب السياسيين والشخصيات العامة على كيفية مخاطبة الجماهير أو الحديث أمام كاميرات التليفزيون، لكننا نفتقد مثل هذه الأمور فى مصر. الخلاصة أن من يذهب إلى البرادعى بحثا عن شحنة انفعالية، أو دفعة معنوية، فهو ربما سيعود خالى الوفاض. فالرجل لا يحزن ولا يفرح ولا يغضب أو يتحمس.. على الأقل لا يظهر ذلك. فهو يتحدث عن قضايا الفقر والمرض مثل طبيب بريطانى وليس من أهل المريض، إلا أن الأغلبية فى بوسطن تبحث عن العلاج وليس نهنهة الأقارب.. تبحث عن التغيير والمشاركة السياسية، ولو لم يكن البرادعى موجودا لاخترعوه. ومواقف الرجل تسمح بتأييده حتى لو لم يكن يعبر عنها بطريقة درامية.. لكن ماذا عن الناس فى حوارى القاهرة وقرى الدلتا والصعيد، كم منهم سيتابع معه آخر إحصاءات الأممالمتحدة؟! بعد المؤتمر خرجت للعشاء مع مجموعة من الشباب الذين شاركوا فى تنظيم المناسبة.. حاجة تفرح. كلهم متفوقون فى عملهم ودراستهم. تعارفوا على الإنترنت، وفى أسابيع قليلة أنشأوا موقعا إلكترونيا، ومجموعة فيس بوك. شكلوا لجانا وفرق عمل، وحددوا المسؤولية التنظيمية فى الولايات المختلفة.. ليسوا جميعا من مؤيدى البرادعى، لكنهم يتفقون على أنه الأكثر قدرة على إحداث التغيير، بما لديه من شهرة عالمية وحص انة دولية لا يمكن أن يسقطها «سيد قراره». عندها تفهمت إصرار النظام على حرمان هؤلاء من حق التصويت فى الخارج، لكن يده لا تطولهم، فهم يعيشون فى أمريكا، ولا يعملون فى الكويت!!