لم يكن أحد ليتوقع أن أيسلندا، تلك الدولة الجزيرة الواقعة هناك شمال المحيط الأطلنطى، تكون سببا فى أزمة جديدة تربك الاقتصاد العالمى الذى لم يكد يتعافى - ببطء - من أزمة ثقيلة، فتؤدى تلك الأزمة «الجديدة» إلى حالة من الشلل التام فى حركة الملاحة الجوية لمدة أربعة أيام وبقاء ملايين الركاب عالقين فى المطارات، ضمن آثار اقتصادية أخرى.. وصل فيها حجم الخسائر إلى200 مليون دولار يوميا فى هذا القطاع فقط نظرا لإلغاء 6 آلاف رحلة فى المجال الأوروبى و15 ألف رحلة أخرى خارج المجال الأوروبى. الطبيعة الثلجية التى ينم اسم الدولة عنها، جعلت التصور السائد عن تلك الدولة أنها دولة صغيرة شديدة البرودة. ولكن فى الواقع هناك عدة حقائق أخرى لا يعرفها الكثير عن هذه الدولة التى لا يتخطى سكانها ثلث المليون نسمة، بمساحة 100 ألف كيلو متر مربع. أبسط هذه الحقائق أن الجليد لا يغطى جميع أجزاء أيسلندا طوال العام، حيث تتراوح درجات الحرارة فى مدن أيسلندا ما بين 15 إلى -6 درجة مئوية. ومن الحقائق أيضا التى كانت بعيدة عن معرفة الكثيرين «الطبيعة البركانية» لتربة هذا البلد. وهى سمة محورية لتكوين أيسلندا الجغرافى. وتاريخيا، اتحدت أيسلندا فى القرن الثالث عشر مع النرويج ثم فى فترة لاحقة - أوائل القرن التاسع عشر - مع الدنمارك إلى أن أُنشئت جمهورية أيسلندا فى سنة 1944، وكان لها رئيسة جمهورية قبل ثلاثين عاما (سنة 1980)، وخدمت فى هذا الموقع طيلة ستة عشر عاما. وبالنظر إلى حجم هذه الظاهرة – الغبار البركانى - ومستوى خطورتها، فقد أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريرا يؤكد أن استمرار الرماد فى طبقات الجو العليا يقلل من مخاطره الصحية. وإن أظهر تحليل الرماد أن نحو ربع الجسيمات أصغر من 10 ميكرون، ولذا فإنها تمثل خطورة فى اختراق الرئة بدرجة أكبر. وهنا يصبح السؤال: ماذا عن مصر؟ صحيح توقع خبراء الأرصاد أن يعكّر الغبار البركانى طبقات الجو العليا فقط فى مصر، ما يعنى عدم تأثير ذلك على الملاحة الجوية فى مصر. ولكن هل يكفى أن نبحث فى مدى إمكانية أو استحالة وصول تلك السحابة إلى مصر؟ والتصرف على هذا الأساس؟ هنا، أعتقد أن هناك عدداً من الدروس التى يمكن استنباطها من هذا الحدث «الجم»، وعلى رأسها ضرورة التعرف على البيئة، وعلى هذا الكوكب الذى نعيش عليه.. بمعنى آخر، نحن فى حاجة إلى توطيد علاقتنا بكوكبنا أكثر مما نحن عليه الآن. خاصة مع ثبوت فكرة «القرية الصغيرة» فى مجال البيئة - من خلال هذه الظاهرة - ومشكلاتها أيضا ليس فقط فى مجال التعاون الاقتصادى الذى روّج له مفكرو العولمة. أشعر أن تلك الظاهرة الطبيعية التى أثارت دهشة الجميع – والعلماء أيضا - تمثل إمكانية لبدء علاقة جديدة بين الإنسان وكوكبه، والتدبر فى أموره. وربما يتأتى ذلك من خلال التعرف على ما يجرى فيه. على الرغم من أن التحركات الدولية فى مجال البيئة تعد فى مجملها «غير كافية»، ولا تعكس حجم المشكلات البيئية التى يشهدها ذلك العالم، إلا أن مصر تحتاج إلى مزيد من الانخراط والاندماج مع تلك التحركات. وعلى سبيل المثال، هناك بعض الأحداث التى تم تنظيمها على المستوى الدولى، روجت لها وسائل الإعلام المصرية أيضا، دون أن يفلح هذا الترويج فى حشد الاهتمام «المرجو» من الأفراد للمشاركة فى هذا الحدث ك«ساعة الأرض». ويرجع ذلك إلى تراجع مستوى الوعى البيئى، وطبيعة سلوك الأفراد تجاه البيئة. خاصة إذا ما أخذنا فى الاعتبار حجم المخاطر البيئية التى نعانى منها فى مصر، وعلى رأسها تلوث الماء والهواء. تعرف البيئة فى كتب التعليم الابتدائى بأنها: «كل ما يحيط بالإنسان»، ومن ثم، فعلى كل فرد أن يراعى حماية محيطه – يعنى البيئة - فى سلوكه، لأنه بذلك يحمى حياته، حتى وإن كان من استخدامه المرشّد للمياه أو توفير الإضاءة غير الضرورية. ليس المجال هنا لتقييم محتوى المناهج الدراسية وقدر ما تحويه من «قيم بيئية»، ولكن لا شك أن رفع هذا الوعى يبدأ من الصغر، وهنا يصبح لمناهجنا الدراسية دور كبير. ونحن فى مصر فى حاجة إلى التأكيد على تلك القيم فالله تعالى قد استدعى الإنسان للوجود ووفر له سبل العيش، فلماذا لا يستغلها – أى الحياة - بما يحقق له أقصى وسائل الكرامة والراحة فى دنياه دون الإخلال بقوانين عمل وتوازن هذا الوجود. ويمكن أن ننمى هذا الوعى فى مصر - جزئيا - من خلال الربط بين طبيعة كل مدينة مصرية وما تتعرض له من أشكال التلوث. فإذا ما هدفنا إلى مكافحة التلوث الضوضائى (الذى يؤدى أحيانا إلى فقدان السمع والانهيار العقلى) فتأتى القاهرة على رأس المدن المستهدفة، أو تلوث مياه البحر، وهنا تأتى المدن الساحلية كهدف. وكذلك التلوث الناتج عن استخدام المواد الكيميائية فى الزراعة، فيكون موضع الحديث عن المدن الزراعية فى الدلتا والصعيد، وهكذا.. وختاما، فعلى الرغم من تأكيد بعض علماء البراكين – خاصة فى غير أوقات الأزمات الكبرى - أنهم توصلوا إلى معايير مكنتهم من مراقبة نشاط البركان والتنبؤ بتوقيت نشاط بعضها (وهو ما لم يكن متاحا من قبل). وتبريرهم الآن – من ناحية أخرى - بصعوبة التنبؤ بالانفجار البركانى فى أيسلندا لأن البراكين تختلف عن بعضها، وأنه ليس لديهم خبرة كبيرة مع هذا البركان حيث إن آخر ثوراته كانت منذ 200 عام. فيتضح أنه مع ما حققه الإنسان من مسيرة «ممتدة» فى تطوير العلم، يظل عاجزا أمام التنبؤ ببعض الكوارث الطبيعية - وعلى رأسها البراكين - وهو خير مثال على أن الطريق لايزال طويلا لكشف أسرار و«مفاتيح» عمل هذا الكوكب وقوانينه. ويبقى القانون المؤكد هنا أن صحة هذا الكوكب تضمن سلامة الاقتصاد العالمى، كما أن التعامل مع هذا الكوكب وموارده ب«رشادة» هو سبيل الحياة الآمنة والعكس - للأسف - صحيح. [email protected]