يتصور بعض المسؤولين لدينا أن سلوكيات الناس يمكن أن تتغير ب«خطبة جمعة»، وأن حال المواطن يمكن أن «ينعدل» أو يستقيم بمجرد أن تبين له الحكومة موقف الدين من هذه القضية أو تلك. أقول ذلك بمناسبة الدعوة التى وجهتها السفيرة مشيرة خطاب – وزيرة الأسرة والسكان – إلى الدكتور محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف، وطلبت منه فيها أن يخصص خطبة الجمعة بالمساجد للحديث عن قضية تنظيم الأسرة وتحريض المواطن «أبوعين فارغة» على الاكتفاء بإنجاب طفلين فقط! وبمنتهى «الجنتلة» استجاب وزير الأوقاف لدعوتها، وأصدر تعليماته بإعداد خطبة نموذجية حول هذا الموضوع يتم «تحفيظها» لمشايخ المساجد، لكى «يفرغوها» فى آذان العباد حتى يفهموا أن الإسلام لا يمانع فى مسألة تنظيم الأسرة. فالوزيرة تظن – مثلها مثل أهل حكومتها - أن الناس يمكن أن تنصاع بسهولة إلى أى توجيهات تمليها عليهم الحكومة بمجرد تقديم سند شرعى لها مدعوم بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. ولو كان الأمر كذلك لتم حل مشكلة الانفجار السكانى فى مصر منذ سنين. فما الجديد الذى يمكن أن تضيفه هذه الخطب على ما كان يقوله الشيخ محمود شلتوت، والشيخ حسنين مخلوف، والشيخ محمد متولى الشعراوى، والشيخ محمد الغزالى حول هذا الموضوع؟! لقد أكد هؤلاء الكبار - فى أكثر من موضع وأكثر من مناسبة - وجهة نظرهم فى أن الإسلام لا يمانع فى تنظيم الإنجاب، بالصورة التى تؤدى إلى حماية الأم والجنين، وبالشكل الذى يتواكب مع القدرات الاقتصادية والقدرات التربوية للأسرة، لكن أحداً لم يسمع لهم.فالتمسح بالدين فى هذه الحالة لا يجدى كثيراً مع هذا الشعب، ليس لأن المصريين قليلو الدين لا سمح الله، ولكن لأن الناس تفهم جيداً أن حديث السلطة «المتستر» بالدين يعد لعبة «مكشوفة»، وأن الحكومة «تكيف» الدين على مزاجها الخاص، وتحاول أن تستخدمه بالصورة التى تحقق مصالحها. ذلك هو الدرس الذى يحفظه المصرى جيداً عبر تاريخه، ويفهم من خلاله أن الدولة يمكن أن تطلق خطباءها للحديث عن أن الإسلام أجاز تنظيم الأسرة، لكنها على استعداد أن تقطع ألسنتهم إذا تحدث أى منهم عن موضوع الضرائب العقارية مثلاً وحكم الشرع فيها، وإن تعجب فعجب أمر السفيرة مشيرة خطاب التى تريد من وزارة الأوقاف أن تقوم بدورها فى توظيف الدين وأحكام الشرع من أجل تنوير المسلمين بأهمية تنظيم الأسرة، فى الوقت الذى وافقت فيه - منذ أيام - على التوقيع على اتفاقية «سيداو» المتعلقة بالتمييز ضد المرأة، رغم اعتراض العديد من المؤسسات الدينية عليها، بما فيها الأزهر، نظراً لاحتوائها على بعض البنود التى تتعارض مع الشريعة الإسلامية، من بينها النص على المساواة بين الرجل والمرأة فى الشهادة القانونية والميراث، بالإضافة إلى فرض نمط حياة الأسرة الغربية على الأسرة المسلمة، بما لذلك من تأثيرات سلبية على الواقع الاجتماعى المصرى، كيف يقتنع المواطن – إذن - بحالة الازدواجية التى تتعامل بها الحكومة مع موضوع الدين؟ فمرة تستدعى أحكامه وأخلاقياته وتوجيهاته من دولابها عندما يوجد لزوم لذلك، ومرة تضرب بها عرض الحائط فى سبيل الوفاء بالتزاماتها واستحقاقاتها الدولية، أو فى سبيل تحقيق أغراضها فى تسخير الشعب لصالحها. فإذا كانت الحكومة ترى أن الزيادة السكانية تلتهم عوائد التنمية، وأن الله تعالى قرن بين كثرة العيال ووفرة المال فى قرآنه الكريم «المال والبنون زينة الحياة الدنيا»، فإن الناس ترد ب«ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم». وإذا كان المسؤولون يرددون قول النبى «جهد البلاء: قلة المال وكثرة العيال» فإن المواطنين يردون بقوله صلى الله عليه وسلم «تناكحوا تناسلوا»، فكل طرف يفهم الدين على مزاجه، ويوظفه بالشكل الذى يخدم مصالحه. لذلك فمهما صرخ خطباء المساجد، ومهما طالبت وزيرة الأسرة والسكان، ومهما «تجنتل» وزير الأوقاف ووجه المشايخ والدعاة إلى استخدام الدين والأدلة الشرعية، من أجل إقناع الناس بضبط نسلهم، فإن أحداً لن ينضبط، لأن زيادة النسل لدى المواطنين هى فى النهاية تعبير عن حالة رفض لتوجيهات وتوجهات نظام حكم يقوم بإذلالهم، ويريد منهم أن «يقطعوا خلفهم». لذلك فقد واصل الشعب الطيب «نسل» العيال فى كل الاتجاهات، انتقاماً من الحكومة، ويأساً من صلاح حاله، لتتأكد حقيقة أن إذلال الناس هو السر الرئيسى فى ارتفاع معدلات الخصوبة الإنجابية. وقد سبق أن توقف الدكتور جمال حمدان - رحمه الله – أمام حقيقة العلاقة بين الخصب والذل فى حياة المصريين فى سياق تحليله للعبارة التى تقول «قال الخصب إنى راحل إلى مصر، فقال الذل وأنا معك». فالحكومة مطالبة بحماية المواطن من الذل، بما يرتبط به من سياسات فقر وإفقار وإهدار، إذا كانت تريد أن تحل مشكلة الزيادة السكانية، لأن الكرامة وحماية حقوق الإنسان على المستويات السياسية والاقتصادية هى الضمانة الوحيدة لمواجهة المشكلة السكانية. لذلك أنصح أصحاب «الوقفة المصرية» بأن يبتعدوا عن تسخير الدين لتحقيق أغراضهم، وأن يفهموا أن الشعب لا يتوقف كثيراً أمام تفسير الحكومة له. وقلبى مع الوزيرة مشيرة خطاب والدكتور «زقزوق» وزير الأوقاف، وهما لا يستوعبان حقيقة أن «كان غيرهم أشطر»! لكن هذا لا يمنعنى من التحذير مبكراً من أن فشل السفيرة «مشيرة» فى ضبط أعصاب المواطن المصرى والمواطنة المصرية ليلة «الخميس» عبر بوابة خطب «الجمعة» قد يؤدى بها إلى الاستعانة بوزارة الداخلية – بعد أن يئست من الأوقاف – لكى تعين عسكرى حراسة فوق كل سرير يرقد عليه زوج وزوجة حتى يمنعهما من ممارسة أى ألعاب خطرة!