البورصات الأوروبية تغلق على ارتفاع.. وأسهم التكنولوجيا تصعد 1%    رئيس الوزراء يناقش سبل دعم وتطوير خدمات الصحفيين    الكشف رسميًا عن كيا EV3 رباعية الدفع الكهربائية الجديدة.. صور    البنك المركزي يتوقع تراجع التضخم خلال النصف الأول من 2025    اختتام أعمال الاجتماعات السنوية للمؤسسات والهيئات المالية العرب بالعاصمة الإدارية    مسئولون إسرائيليون: نخشى إصدار المحكمة الجنائية الدولية حكما بوقف حرب غزة    كولر يعلن قائمة الأهلي لمعسكر مباراة الترجي بنهائي دوري أبطال أفريقيا    ما هو منتج كرة القدم الصحفى؟!    تحذير للأهلي .. ما هو الوقت المفضل للاعبي الترجي بتسجيل الأهداف؟    تقارير: محرز يرفض الانضمام لمنتخب الجزائر.. واتجاه لاستبعاده نهائيا    الأرصاد: غداً طقس حار نهاراً ومعتدل ليلاً على أغلب الأنحاء    محافظ بورسعيد يشيد بجهد كنترول امتحانات الشهادة الإعدادية    ضبط المتهمين في واقعة ال«تعذيب لكلب» في منطقة عابدين    مسئول بالآثار عن العثور على مومياء بأحد شوارع أسوان: وجودها بهذه المنطقة أمر طبيعي    إعلام فلسطينى: 6 شهداء وعدد من الجرحى فى استهداف الاحتلال مخزنا بدير البلح    خاص.. الأهلي يدعو أسرة علي معلول لحضور نهائي دوري أبطال إفريقيا    الحوثيون: استهدفنا 119 سفينة إسرائيلية وأمريكية وبريطانية منذ نوفمبر    المنشاوي يستعرض تقريراً حول إنجازات جامعة أسيوط البحثية ونشاطها الدولي    شباب المصريين بالخارج: قضية الهجرة غير الشرعية حظيت باهتمام غير مسبوق من السيسي    متى وكم؟ فضول المصريين يتصاعد لمعرفة موعد إجازة عيد الأضحى 2024 وعدد الأيام    نشطاء مؤيدون لفلسطين يعتزمون البقاء بغرف يحتلونها بجامعة برلين حتى تلبية مطالبهم    الكرملين: الأسلحة الغربية لن تغير مجرى العملية العسكرية الخاصة ولن تحول دون تحقيق أهدافها    في ذكرى رحيله...ومضات في حياة إبسن أبو المسرح الحديث    هكذا علق مصطفى خاطر بعد عرض الحلقة الأخيرة من مسلسل "البيت بيتي 2"    بالفيديو.. خالد الجندي: عقد مؤتمر عن السنة يُفوت الفرصة على المزايدين    وضع أطر استراتيجية الصحة النفسية للأطفال والمراهقين    بوتين يصدر مرسوما يتيح التصرف بالممتلكات الأمريكية في روسيا    وزير الري: نبذل جهودا كبيرة لخدمة ودعم الدول الإفريقية    ابنة قاسم سليماني تقدم خاتم والدها ليدفن مع جثمان وزير الخارجية عبد اللهيان    بعد تصدرها التريند.. كل ما تريد معرفته عن فيلم "روكي الغلابة"    أجمل عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024 قصيرة وأروع الرسائل للاصدقاء    أحمد الفيشاوي في مرمى الانتقادات من جديد.. ماذا فعل في عرض «بنقدر ظروفك»؟    بمناسبة أعياد ميلاد مواليد برج الجوزاء.. 6 أفكار لهداياهم المفضلة (تعرف عليها)    من الجمعة للثلاثاء | برنامج جديد للإعلامي إبراهيم فايق    بعد اتفاقه مع يوفنتوس.. بولونيا يعلن رحيل تياجو موتا رسميًا    وزارة الصحة تؤكد: المرأة الحامل أكثر عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرى    ما حكم سقوط الشعر خلال تمشيطه أثناء الحج؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    محافظ كفر الشيخ يتفقد السوق الدائم بغرب العاصمة    السعودية تفوز باستضافة منتدى الأونكتاد العالمي لسلاسل التوريد لعام 2026    هل هي مراوغة جديدة؟!    رئيس الوزراء يتابع موقف تنفيذ المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل    آخر موعد لتلقي طلبات وظائف الكهرباء 2024    الأزهر للفتوى يوضح فضل حج بيت الله الحرام    الكشف على 1021 حالة مجانًا في قافلة طبية بنجع حمادي    وزير الدفاع: القوات المسلحة قادرة على مجابهة أى تحديات تفرض عليها    تعاون بين الجايكا اليابانية وجهاز تنمية المشروعات في مجال الصناعة    رئيس وزراء أيرلندا: أوروبا تقف على الجانب الخطأ لاخفاقها فى وقف إراقة الدماء بغزة    التنمية المحلية: طرح إدارة وتشغيل عدد من مصانع تدوير المخلفات الصلبة للقطاع الخاص    أخبار مصر.. التعليم نافية تسريب امتحان دراسات إعدادية الجيزة: جروبات الغش تبتز الطلاب    ننشر حيثيات تغريم شيرين عبد الوهاب 5 آلاف جنيه بتهمة سب المنتج محمد الشاعر    تاج الدين: مصر لديها مراكز لتجميع البلازما بمواصفات عالمية    الرعاية الصحية تعلن نجاح اعتماد مستشفيي طابا وسانت كاترين بجنوب سيناء    أمين الفتوى يوضح ما يجب فعله يوم عيد الأضحى    «مش عيب والله يا كابتن».. شوبير يوجه رسالة لحسام حسن بشأن محمد صلاح    المراكز التكنولوجية بالشرقية تستقبل 9215 طلب تصالح على مخالفات البناء    تعليم القاهرة تعلن تفاصيل التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الأبتدائي للعام الدراسي المقبل    الداخلية تضبط 484 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1356 رخصة خلال 24 ساعة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-5-2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال (البردية الخامسة)القلادة التى انفرطت

رغم تكرار أسماء الكثير من الملوك فى التاريخ المصرى القديم فإن اسماً لم يتكرر قدر ما تكرر اسم رمسيس الذى يمثل تتابعه على مدى الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين سجلا متصلا لانحدار الدولة المصرية. فما بين بداية عهد رمسيس الأول عام 1295 قبل الميلاد وحتى نهاية عهد رمسيس الحادى عشر عام 1069 قبل الميلاد يروى التاريخ فيما يزيد قليلاً على المائتى سنة قصة ذلك الانحدار السريع من أقوى عصور التقدم والازدهار إلى أكثر العصور ضعفا وهوانا.
وتبدأ قصة الرعامسة برمسيس الأول الذى كان قائدا عسكريا نشأ فى شرق الدلتا وارتقى إلى منصب الوزير فى عهد حور محب. ومن يتأمل التابوت الجرانيتى لرمسيس الأول الموجود الآن بالمتحف المصرى يجد فى النقوش الداخلية التى تزيّن التابوت قصة تروى كيف تبنّى حور محب قائده رمسيس واتخذه وليا للعهد يحكم من بعده.
خلال حكم رمسيس الأول شهدت مصر بعض النشاط المعمارى حيث شيّد عدداً من المعابد فى أبيدوس والكرنك وغيرهما.
أما ابنه سيتى الأول فربما كانت أهم إنجازاته بعد الفتوحات التى حققها أنه أنجب واحدا من أعظم حكام مصر على مدى تاريخها وهو رمسيس الثانى، بطل معركة قادش المجيدة عام 1274 قبل الميلاد، التى تعتبر نقوش ورسوم معاركها على جدران معابد الأقصر والكرنك وأبيدوس وأبوسمبل من أروع قصص المعارك الحربية التى خلّفتها لنا مصر القديمة.
وقد خلّد شاعر البلاط الملكى بنتاؤر معركة رمسيس الثانى فى ملحمة رائعة تصور لنا فى أحد أجمل مواقعها مشهدا دراميا مثيرا، وذلك حين وجد رمسيس نفسه وحيدا فى مواجهة مواتالى ملك الحيثيين الذين كان المصريون يسمون بلادهم خاتى. فقد شن الحيثيون على رمسيس هجوما مباغتا أثناء عبوره نهر العاصى شطر قواته شطرين فتفرق جنوده فى كل صوب وبقى هو وحده فى مواجهة العدو.
يكتب بنتاؤر على لسان رمسيس:
ليس معى جندى ولا قائد.
مشاتى وقوات المركبات هجرونى.
يا آمون العظيم..
لست الأب الذى يتخلى عن ابنه البار.
لقد حافظت على كل تعاليمك ونصائحك.
إنك لن تسمح لأجنبى بالاقتراب من سيد طيبة العظيم.
من هم هؤلاء الآسيويون بالنسبة لك؟
رجال أشرار لا يعرفون الله.
ألم أشيد من أجلك العديد من العمائر؟
إنى أناديك يا أبى: أيا آمون فى علاك!
إنى وسط أعداء لا أعرفهم.
كل هذه البلدان تجمعت ضدى وجيوشى هجرتنى.
لكنى أناديك أيا آمون.
يا من أنت الأفضل..
من عشر ملايين جندى.
يا من أنت الأقوى..
من مئات آلاف من المركبات الحربية.
يا من أنت الأبرك..
من آلاف الإخوة والأبناء والأقارب وأهل البلاد.
فى موضع آخر من الملحمة يستجيب آمون لرمسيس:
مد لى آمون اليد.
أطلق صرخة الفرح من صدورنا.
قال: أنا رب النصر أحب الشجاعة.
اضرب باليد اليسرى وحارب باليمنى.
ثم يصف رمسيس مشهد الانتصار بعد ذلك فيقول:
أرى الألفى وخمسمائة مركبة حربية التى أحاطت بى
مسجاة.. مهشمة..
منقلبة أمامى.
ألقيت بها فى الماء فغاصت للقاع كما يغوص التمساح.
الجنود يتعثرون فوق بعضهم البعض
فأقتل منهم ما أشاء.
يصيحون فى بعضهم البعض:
«هذا الذى بيننا ليس بشرا.. إنه الإله بعل!».
لكن رمسيس كان رجل سلام بقدر ما كان رجل حرب، والحيثيون الذين حاربهم وانتصر عليهم فى عهد الملك مواتالى عقد معهم بعد ذلك فى عهد الملك حاتوسيل الثالث أول معاهدة سلام عرفها التاريخ، وقد حررت المعاهدة التى وقعت عام 1278 قبل الميلاد من صورتين، الأولى باللغة المصرية والثانية بلغة الحيثيين ودُونت على ألواح صغيرة وضعت فى محفوظات عاصمة كل منهما. وقد نقشت نسخة من المعاهدة بالخط الهيروغليفى على جدران معبد الكرنك.
وتتضمن المعاهدة كل البنود المتعارف عليها فى معاهدات السلام التى نعرفها اليوم مثل عدم الاعتداء، والدفاع المشترك، وتسليم الفارين.. إلخ. أما ما يجعل المعاهدة فريدة من نوعها فهو أن الشهود الضامنون لها كانوا الآلهة أنفسهم مما يضفى بعدا إلهيا كونيا على المعاهدة التى تقول كلماتها:
على كل كلمات هذه المعاهدة المبرمة بين ملك خاتى المعظم ورمسيس محبوب آمون سيد مصر المعظم، والمدونة على ألواح صغيرة من الفضة شهد ألف إله ذكورا وإناثا من آلهه بلاد خاتى، وألف إله ذكورا وإناثا من مصر، هم جميعا الحافظون لهذه الكلمات. الشمس سيدة سماء مصر، وشمس مدينة أرينا الموطن الأصلى لأسرة الحيثيين، وإله الريح والزوابع، وأب السماء، وإله مدينة حلب، وعشتار إلهة صور، وسادة القسم، والإلهات سيدات الأرض، وجبال وأنهار بلاد خاتى، وجبال وأنهار وادى النيل، والأرض والسماء، والبحر والسحاب.
وقد عاش رمسيس الثانى حتى سن التسعين وبلغت ذريته 51 ابنا وبنتا، وخلال حكمه الذى استمر أكثر من ستين عاما كان الكثير من أبنائه قد توفوا بما فى ذلك ولى العهد ابنه من زوجته الملكة نفرتارى. وحين توفى رمسيس الثانى تولى بعده ابنه الثالث عشر مرنبتاح من زوجة أخرى وكان فى الأربعين من عمره واستمر حكمه عشر سنوات ثم توالى على الحكم خمسة ملوك إلى عهد رمسيس الثالث فى الأسرة العشرين، والذى شهدت السنة ال 29 من حكمه واحدا من أول الإضرابات العمالية فى التاريخ حين أضرب عمال دير المدينة عن العمل لتأخر صرف مستحقاتهم من الحبوب والغذاء.
كانت مصر قد تغيرت وبدأ الازدهار والتقدم الذى عرفه عهد رمسيس الثانى يفسح الطريق أمام القلاقل والتخلف، ومثلما ذاعت الإضرابات خارج القصر سادت المؤامرات داخله فأصبح العرش مستباحا لكل طامع فيه.
وتتحدث البردية المعروفة باسم «بردية تورينو القضائية» (كما تتحدث برديتان أخريان) عن المحاكمة التى جرت لأطراف مؤامرة قام بها حريم القصر لاغتيال رمسيس الثالث، فمثل العديد من فراعين الدولة الحديثة كان لرمسيس عدد كبير من الزوجات غير زوجته الرسمية الملكة تى ميرينيز، وقد تمكنت إحداهن، وهى ساتى، من التخطيط للتخلص من فرعون بمعاونة عدد من الحريم حتى يتولى الحكم ابنها فتكون لها الغلبة بين باقى الزوجات.
كانت السماء تسودها السحب التى حجبت ضوء النجوم فى تلك الليلة الشتوية الباردة. خرجت ساتى إلى الفناء الخارجى للقصر فوجدت ثلاث نساء ملتحفات فى انتظارها حسب الموعد وقد حملن تحت الأغطية التى لفتهن حجارة الجرانيت المسنونة التى كن سيطعنَّ بها فرعون فى مرقده. قادتهن ساتى بسرعة إلى داخل القصر وقبل أن يصعدن الدرج الكبير إلى غرفة رمسيس فوجئن بالملكة تى ميرينيز تقف أعلى الدرج وقد أحاطت بها وصيفاتها اللاتى كن يحملن الشوم الغليظة.
كانت الملكة فى كامل زينتها: على رأسها جلس التاج الملكى الذى لم يكن لأى من زوجات فرعون الأخريات حق ارتدائه، وأعلى كل من ذراعيها التفت حيَّات ذهبية رصعت أعينها بالأحجار الكريمة، أما رقبتها فقد أحاطت بها قلادة كمت النادرة التى ورثتها عن نفرتارى ملكة رمسيس الثانى وهى أرفع مصاغ الدولة الحديثة. كانت حباتها من الفاروز واللازورد والخزف النادر والزجاج المائل للخضرة والذى هو أغلى من كل المعادن.
وقد صيغت تلك الأحجار على شكل الجعارين رمز الخلود، وفصل بين كل منها ذبابة الشرف الذهبية، رمز التكريم والتقدير، وجمعت كل ذلك خيوط من ذهب تدلت منها على صدر الملكة علامة عنخ الذهبية التى هى مفتاح الحياة.
«أهلا وسهلا!» صاحت الملكة من أعلى الدرج «يا لها من زيارة مفاجئة فى تلك الساعة المتأخرة من الليل». انتفضت ساتى وارتعدت فرائصها بعد أن أدركت أن خطتها قد انكشفت.
«ماذا تفعلين هنا؟» صاحت ساتى فى غيظ «إن تلك ليلتى مع الملك وليست ليلتك، فماذا أتى بك؟» ارتسمت على وجه الملكة ابتسامة ساخرة وهى تقول: «لكنك أمضيت ليلتك بالفعل مع الملك ويبدو أنه لم يستمتع بها كثيرا، فقد انقضت ساعاتك بسرعة وهو الآن يخلد إلى النوم».
فغلى دم نسوى فوّار فى عروق ساتى واندفعت بلا شعور تصعد درجات السلم حتى وصلت إلى قمته فجذبت الملكة من عقدها الملكى الذى تلألأت أحجاره وسط أضواء القصر الخافتة فانفرطت على الفور وتدحرجت على السلم فى جميع الاتجاهات فانكسر منها ما انكسر وضاع منها ما ضاع بينما نشبت معركة طاحنة بين أعوان الزوجتين انتهت بدخول الحرس ووثاق ساتى ورفيقاتها اللاتى جرت بعد ذلك محاكمتهن.
وحين انقضى عهد رمسيس الثالث خلفه على العرش ابنه رمسيس الرابع الذى كان ملكا ضعيفا، فالأمجاد التى شهدها عهد رمسيس الثانى كانت قد ولّت منذ سنين، وتوالى الرعامسة وتوالى معهم تدهور أحوال مصر، وما إن وصلنا إلى عهد رمسيس الحادى عشر عام 1099 قبل الميلاد حتى كانت نهاية الأسرة العشرين وبداية تفكك الدولة المصرية، ومع نهاية الأسرة الثانية والعشرين سقطت طيبة فى يد الليبيين الغزاة بعد أن تحولت مصر إلى إمارات صغيرة متفرقة.
وفى بردية أخرى يعود تاريخها إلى عام 1080 قبل الميلاد يكتب ون آمون، مندوب رمسيس الحادى عشر، تقريرا لفرعون عن الرحلة التى أوفده فيها إلى بيبلوس بلبنان لاستجلاب خشب الأرز الذى اعتمدت عليه مصر طوال تاريخها فى صناعة المراكب المقدسة للإله آمون.
كانت تلك أول رحلة رسمية تأتى من مصر منذ سنين وكان لبيبلوس أمير جديد أساء معاملة مندوب فرعون مصر رغم العلاقات الوثيقة التى كانت تجمع فى السابق بين البلدين، والتى كانت تحصل مصر بمقتضاها من لبنان على خشب الأرز، بينما كانت تحصل لبنان من مصر على كتان أخميم المغزول، الذى لم يكن يضاهيه نسيج فى العالم.
وقد مرت الأيام ثم الأسابيع ومندوب فرعون فى مراكبه بالميناء لم يحظ بلقاء أمير بيبلوس. وبعد مرور أشهر على هذا الحال استشاط ون آمون غضبا وأرسل إلى الأمير يذكره بأفضال مصر على بلاده وأنهى رسالته قائلا: «هل نسيت كيف لجأت بيبلوس إلى مصر لحمايتها من الحيثيين؟».
وأراد أمير بيبلوس تأديب مندوب فرعون فاستدعاه أخيرا لمقابلته.
ويصف مندوب فرعون اللقاء فيقول:
دخلت عليه القصر فوجدته جالسا ينظر من النافذة وقد أدار لى ظهره كأن أمواج بحر سوريا العاتية تتلاطم حتى تصل رقبته، فلم أقدم له التحية إلا بعد أن التفت إلىّ. قال لى الأمير على الفور: «أتعايرنى بأن مصر حمتنا من الحيثيين؟ إن هذا لم يكن فى عهدكم، وإنما فى عهد رمسيس الثانى، والفرق بين الثانى والحادى عشر كالفرق بين قمة جبل لبنان وقاع بئر الشرر، فتحدث بما يليق بحالكم واعلم أننى لست خادمك ولا خادم من أرسلك!» فرد عليه مندوب فرعون: «لم آت لأتحدث وإنما جئت فى طلب». قال الأمير: «تطلبون أرز لبنان وكأنه حق علينا تسليمه لكم. إن الأرز هو فخر لبنان ولا نعطيه لأحد». ثم أنهى حديثه قائلا: «أنا أمير بيبلوس عندما أصيح فى البلاد تنشق السماء وتسجد الأشجار على الأرض».
فرد عليه ون آمون وقد غلت الدماء فى عروقه: «يا لك من ناكر للجميل! لقد كسوناكم بكتان مصر بعد أن كنتم عرايا. وفرعون هو ظل السماء على الأرض إذا طالكم غضبه مُحيت بلادكم من الوجود. ما من سفينة فى النهر أو البحر إلا وتسير بأمره، فالأنهار والبحار ملكه وبلادكم أيضا ملكه. إنه فرعون كمت، الأرض السوداء، صاحب القوة والبطش».
فقال الأمير: «إن أيامكم هى السوداء، فكف عن هذه التهديدات الكاذبة! لقد أعيتكم الانقسامات الداخلية ولم يعد بوسعكم تهديد أحد». فرد عليه مندوب فرعون قائلا: «اعلم أننى حين أعود إلى فرعون بتلك الرواية فبلادكم هالكة لا محالة». وغادر ون آمون القصر دون أن يستأذن من الأمير.
ووصلت إلى الآلهة فى السماء أنباء عن قرب الحرب بين مصر وبيبلوس، اللتين كانت تربط بينهما فى الماضى علاقات الأخوة وأواصر الدم. فارتجت أعمدة الكون، واجتمع آمون بإله بيبلوس أدونيس ليتدبر تلك الأزمة التى تسبب فيها رعايا كل منهما. تجسد أدونيس لأمير بيبلوس فى قصره على شاطئ البحر وقال له: «ألا تعلم أيها الأمير الصغير أن قوة بيبلوس ولبنان وبر الشام وسائر بلاد المنطقة مستمدة من قوة مصر؟ يالك من أمير متهور لا تعرف صالح البلاد. كفّر عن تطاولك هذا على الفور بمنح مندوب فرعون مائة شجرة أرز بلا مقابل».
فى نفس الوقت تجسد آمون لفرعون مصر فى قصره على ضفاف النيل وقال له: «كيف تحولت من راعى بلاد الشرق والغرب إلى متعال عليها؟ ألا تعلم أن قوة مصر تبدأ من هناك فى الشرق؟ اطلب من مندوبك أن يكفّر عن صلفه هذا على الفور بتقديم أفخر الكتان لكافة أفراد الشعب فى بيبلوس، وإلا أطلقت عليكم فى مصر ولبنان جحافل الغزاة تقضى عليكماً معا».
لكن مصر كان مازال مقدرا لها قرون من الضعف والهوان تخللتها بعض فترات الازدهار كالشمس حين تشرق بين زخات المطر. فقد تعرضت لغزو بعد ذلك من الغرب وحكمها الليبيون ابتداء من الأسرة الثانية والعشرين، ثم تعرضت لغزو من الشرق وحكمها الفرس ابتداء من الأسرة السابعة والعشرين، ثم تعرضت لغزو من الشمال فحكمها البطالمة ثم الرومان حتى عهد الفتح الإسلامى.
وفى بردية مهلهلة غير معروضة فى متحف تورينو بإيطاليا يقول الإله آمون رع عند تتويج مرنبتاح ابن رمسيس الثانى ووريث مجده: «احفظ قوة مصر وحافظ على وحدتها فإذا انفرطت القلادة وتفرقت حباتها فى كل صوب صعب علينا إعادة جمعها إلا بعد سنين طوال».
نصوص: محمد سلماوى
لوحات: مكرم حنين
تنشر نصوص البرديات يومى الاثنين والخميس من كل أسبوع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.