مسكينة مصر، جميلة وبنت ناس، لكن الزمن جار عليها فهامت فى الشوارع على طريقة «هبلة ومسكوها طبلة»، النخبة أكثر خبلا من العامة.. دكاترة وسياسيون ومثقفون وقادة فى حركات التغيير يقدمون أسوأ نموذج للحوار السياسى والفكرى، ويمارسون لغة المقاهى فى التعليق على الموقف السياسى، من يأخذ بيد هذا البلد إلى مصحة بهمان؟.. «لقد فقد الدكتور سعد الدين إبراهيم عقله»، هكذا أخبرنا الدكتور حسن نافعة وفقاً لما جاء فى تصريحاته لوكالة الأسوشيتدبرس الأمريكية لأن إبراهيم، عالم الاجتماع السياسى والناشط البارز فى مجال الديمقراطية ومفردات المجتمع المدنى، وقع على بيان بالموافقة على حق جمال مبارك فى الترشح لرئاسة الجمهورية، وإذا لم يكن إبراهيم فقد عقله فإنه، كما يقول نافعة قد دخل فى صفقة مع النظام!! قرأت تصريحات الإدانة وشاهدت صورة سعد الدين وهو يوقع على «ماجنا كارتا مباركية» لحق نجل الرئيس فى الترشيح كمواطن، ثم قرأت بيانه «الاستدراكى»، الذى اختار له عنوانا ستينيا من نوع «بيان إلى الأمة عن بدايات التزوير والتضليل»، وتابعت الانقسام المضحك والتفسيرات البهلوانية بين فريق «ياللهول»، الذى قاده نافعة، واصفا توقيع إبراهيم بالسقطة والصفقة والجنون، وبين فريق «وفيها إيه يعنى؟» الذى قادته صحيفة «الدستور»، فسعت لتبرير التوقيع باعتباره اختيارا ديمقراطيا لم يقع فى خطيئة مصادرة حق مواطن مصرى (أيا كان أبوه) فى الترشيح للرئاسة، المواقف مهما تنوعت، والآراء مهما تباينت لم تزعجنى، فهى حق حر تماما لأصحابها، لكن اللغة المستخدمة، والغوغائية التى تخلط الحابل بالنابل، والتحليل «البافلوفى» على طريقة «إنت بتقول عز يبقى إنت اللى قتلت بابايا» أو «إنت بتقول جمال مبارك يبقى إنت توريثى»، كل هذا ساهم فى تضخيم «المتغير الدراماتيكى»، فتحدث «البافلوفيون» عن «صدمة» وكأن سيدنا أبوبكر، رضى الله عنه، قد صبأ، مع أن الذى وقع على البيان هو نفسه صاحب دعوة «تجسير الفجوة بين المثقف والأمير»، التى أطلقها منذ الثمانينيات وحدد لها ثلاثة جسور، أولها ذهبى يلتقى عليه المثقف والحاكم بندية للتعامل مع أزمات البلاد، والثانى فضى عندما ينتقى الأمير ما يعجبه من نصائح المثقف ويترك ما لا يعجبه، والثالث، وهو الغالب، الجسر الخشبى الذى يعبر عليه المثقف كخادم مطيع ليعيش مطأطئ الرأس فى بلاط الحاكم مكتقيا بالتماس أمانه الشخصى. إذن سعد الدين إبراهيم لم يفقد عقله، إنه عاد إلى عقله، ووصاياه، ودعوته القديمة، لكننا نحن الذين لا نقرأ، ولا نصدق، ولا نتعلم، فهذا الرجل الذى كنا طلابا نقص مقالاته من العدد الأسبوعى فى صحيفة الجمهورية ونتبادلها إعجابا، هو نفسه الذى سعى لهدم كل التعريفات التى كانت تروق لنا عن «المثقف العضوى» وسخر من سارتر وجرامشى وماو تسى تونج وغيرهم، ليدشن مصطلحاً جديداً للمثقف باعتباره «صنايعى» يقوم بمهمة مقابل أجر، وهكذا يصبح من حق أى مثقف أن يبيع خبرته لمن يدفع، ومثل هذا السلوك لا يحتمل الحديث عن موقف سياسى، بل ينبئنا مبكرا بشرعية «الصفقات» و«السبابيب»، باعتبارها جزءاً من «الشغلانة»، أما أن نلطم الخدود لأن أوباما لم يحرر لنا فلسطين، أو أن الرئيس مبارك فاجأنا وأعلن موافقته فى واشنطن على تضييع أو لنقل «تمييع القدس» باعتبارها عاصمة لإسرائيل، وكذلك لدولة فلسطينية لم تولد بعد!، فهذا هو ما وصفته فى البداية ب«الخبل»، لأننا نصّر طوال الوقت على تكرار قصة عمرو بن العاص وأبوموسى الأشعرى، ونصر طوال الوقت على ابتلاع طعم «الحق الذى يراد به باطل»، لكن المصيبة المعروفة للجميع أن سعد الدين إبراهيم لم يكن يوما قديسا للديمقراطية، ولا مناضلا وطنيا فى شارع الفقراء، لكنه مجرد «وكيل دولى» لمفاهيم وشعارات وأبحاث، ومكتب خدمات لمن يدفع، فلماذا نصدق نحن ما لم يحدث، ولماذا ننتظر أن تأتى لنا «حداية الغرب» بكتاكيت السلام والديمقراطية والرخاء؟... اللهم اشفنا من الخبل بحق هذا الشهر الفضيل. [email protected]