السماء لم تعد بعيدة

وصلنى هذا النص الإنسانى البالغ العذوبة من د. ناهد على، مدرس الأدب الإنجليزى بجامعة بنى سويف.
«حينما كنت طفلة صغيرة. كانت لدى أمنية واحدة: أن أحلق فى السماء، تماماً مثل الطيور. كنت أتساءل فى دهشة: كيف تستطيع أن تفعل ذلك، وأنا لا أستطيع؟
وكنت أتصور أن أقرب مكان للسماء هو سطح منزلنا ذى الخمسة طوابق. لذلك حين كنت أعود من المدرسة كنت أرتقى درجات السلم قفزاً إلى السطح، لأحاول أن أحلّق فى السماء.
وفى كل مرة، كنت أقف على أطراف أصابعى، أرفع يديى وكأنهما جناحان، أشد نفسى إلى أعلى! وفى كل مرة كان يخيب ظنى، وأكتشف أن السماء لاتزال بعيدة.
حاولت وفشلت مئات المرات! وفى كل مرة كنت أصاب بإحباط شديد. وذات يوم، طرأت على ذهنى فكرة، بدت لى وقتها عبقرية. أسرعت إلى أبى، ورجوته أن يصعد معى إلى سطح المنزل، حتى يحملنى بكلتا يديه. وقتها سأكون قريبة جدا من السماء.
الغريب أن أبى كان ينصت لى فى اهتمام. والأغرب أنه ابتسم فى حنان بالغ. ثم أخذ يدى الصغيرة، وارتقى معى سلم العمارة. كنت أطير من السعادة. وواثقة أننى سأحلق أخيراً فى السماء.
حين وصلنا إلى السطح، أخذنى أبى إلى المنتصف. كانت أشعة الشمس الدافئة تغمر المكان. وتأهبت لأن يحملنى أبى عالياً. لكنه - ولدهشتى - أخبرنى أنه ما من داعٍ لذلك. فكل ما علىّ أن أفعله هو أن أمسك يده جيداً، وألا أتركها مهما حدث، وأن أغمض عينى، وآخذ نفسا عميقا.
ما زلت حتى الآن لا أصدق ما حدث. فجأة شعرت أننى خفيفة جدا! ثم وجدتنى أرتفع شيئاً فشيئاً. ثم أطير فى السماء.
نعم رحت أطير فى السماء. ما عاد شىءٌ يشدنى لأسفل. ما عادت قدماى ثقيلتين. ما عاد شىء يعوق انطلاقى وتحليقى كيفما أشاء.
أنا لم أعد أنا! صرت ريشة أو فراشة أو طائراً أو ملاكاً! لم أكن بحاجة لأن أفتح عينىّ، فقد كنت أرى ما حولى بوضوح تام. كل شىء كان أروع وأجمل. السماء أكثر رحابة وصفاء، والشمس أكثر لمعاناً ودفئاً، والطيور رأيتها تتحدث إلىّ، وأنا أفهمها، وأبادلها الحديث.
لكن فجأة، تلفتُّ حولى، فلم أر أبى! كيف هذا! إننى مازلت أمسك بيده! أشعر بها! فلماذا إذن لا أراه؟!.
فى تلك اللحظة، صارت أمنيتى الوحيدة أن أرى أبى. نعم! ما من شىء لحظتها كان يعدل عندى أن أراه.
وهنا شعرت بأبى يضغط برفق على يدى. ففتحت عينى فرأيته، بابتسامته الحانية رأيته، فألقيت بنفسى بين ذراعيه.
لفتت ذراعى النحيلة حول عنقه! كم أنت رائع يا أبى! علمتنى كيف أُحلّق فى السماء!.
والآن، وبعد سنوات طويلة من رحيل أبى، كلما اشتقت إليه، أرفع رأسى وأنظر إلى السماء».
aymanguindy@yahoo.com