بداية أقول إننى لست ضد الإضراب أو العصيان المدنى، فهى وسائل سلمية لتحقيق المطالب، مشروعة فى عرف العمل السياسى والنقابى وفى نصوص القانون الوطنى والدولى، كما أنها ليست بدعة استحدثها ثوار 25 يناير، ولكن أجدادهم مارسوها فى ثورة 1919 عندما أضرب عمال الترام والسكك الحديدية والبريد والكهرباء والورش الحكومية وسائقو التاكسى وغيرهم، ولجأت إليها أمم أخرى مثلما حدث فى الهند أيام المهاتما غاندى الذى أعلن العصيان لمقاومة الاحتلال الإنجليزى، ومثلما يحدث الآن فى اليونان بالإضراب العام ضد إجراءات التقشف، أو يحدث فى إسرائيل احتجاجا على شروط عمل الموظفين المؤقتين.. العصيان والإضراب العام إذن أمر مبرر ومشروع، بل يمكن أن يكون ضرورياً إذا ما تعنتت السلطة فى الاستجابة لمطالب الشعب أو قطاعات واسعة منه. لكن أهم ركن فى نجاح العصيان المدنى هو أن يشمل أكبر قدر من وسائل العمل بحيث يعطل دولاب الحياة ويؤدى إلى ضغط محسوس على السلطة يدفعها إلى الرضوخ للمطالب الشعبية.. هذا الشرط لم يتحقق حتى الآن بالنسبة لنا هنا فى مصر نتيجة لعدم توافق القوى السياسية واعتراض أغلبيتها الإسلامية، وكذلك نتيجة لضعف النقابات العمالية ولغياب ثقافة العصيان زمنا طويلا، ونتيجة أيضا لعدم توافر الاقتناع بأسباب العصيان لدى الكثيرين من المواطنين.. معظم هؤلاء حريصون على لقمة العيش، وهم يعتقدون أن الضائقة الاقتصادية التى تمر بها البلاد ستزداد تفاقما وأنهم سيزدادون بؤسا.. ولاشك أن الكثيرين منهم تأثروا بالحملة الشرسة التى أعلنها المجلس العسكرى على الثوار، وكذلك بالهجمة الغوغائية المسعورة التى أطلقتها فى ركابه وسائل الإعلام الرسمية وبعض مؤسسات الإعلام الخاصة، وأيضا بأبواق المؤسسة الدينية التى أخرجت من عباءتها كل الذخائر التى أعدتها لتجريم العصيان انصياعا لتوجيهات السلطة. البابا شنودة قال إن «العصيان لا يقبله الدين ولا تقبله الدولة والآيات فى الكتاب المقدس التى تحض على طاعة الحاكم كثيرة».. أما شيخ الأزهر فكان أكثر حصافة إذ لم يذهب صراحة إلى حد تحريم العصيان شرعا، ربما حتى لا يذكرنا بالبيان الذى أصدره عندما قامت الثورة، واعتبر وقتها أن «المتظاهرين ليس فى قلوبهم ذرة من إيمان»، ودعاهم إلى وقف احتجاجاتهم، وقال إن «المظاهرات حرام لأنها تعد خروجا على النظام».. اكتفى شيخ الأزهر هذه المرة بوصف دعاة العصيان والإضراب بأنهم مغرر بهم أو أدعياء للهدم، ونادى المصريين ألا يعطلوا العمل ساعة واحدة. وشدد مفتى الديار على الضرب بيد القانون على من تسول له نفسه إشاعة الفوضى أو الإفساد فى الأرض، لكن عديداً من الدعاة ذهبوا إلى أن الداعين للإضراب أو المشاركين فيه آثمون شرعا.. ورغم أن بعض رجال الدين أجاز الإضراب إذا كان يهدف إلى مصلحة البلاد، فقد ضاعت أصواتهم تحت سطوة المؤسسة الدينية الرسمية ونفوذها الواسع، خاصة أنها كانت قد أصدرت تعليماتها إلى أئمة المساجد أن يدعوا فى خطبة الجمعة الأخيرة إلى نبذ العصيان والتنديد بدعاته. أما المجلس العسكرى فقد بدا فى نهاية الأسبوع الماضى فى غاية التوتر حتى إنه أمر بنشر قوات الجيش فى جميع المحافظات لحماية الممتلكات والطرق ليوهم الناس بأن العصيان سوف يأتى بالتخريب والدمار، وكان الجيش قد غاب فترة طويلة من شوارع مصر وتركها فريسة للانفلات الأمنى الذى لم ينجح فى لجمه رغم توليه السلطة المطلقة عاما كاملا.. وفى مساء الجمعة - ليلة الإضراب - أصدر المجلس بيانا عاود فيه أسلوبه فى الترويع والتخويف، ونشر أكذوبته المفضلة أن هناك «مؤامرات غايتها إسقاط الدولة لتسود الفوضى ويعم الخراب»، وهو نفس ما قاله رئيس الوزراء وما قاله رئيس المجلس الاستشارى الذى حذر من أن «العصيان يضر بمصالح الطبقات الفقيرة». فى الخلاصة، كانت جوقة النظام تعزف لحنين، الفوضى وانهيار الاقتصاد، لكن العزف كان نشازا لأنه كان مبالغا فيه إلى حد كبير، ولعل الضرر الذى أحدثه بالاقتصاد كان أبشع من العصيان ذاته، إذ تناقلت وسائل الإعلام أنباء الأزمة بشكل أوحى بأن البلاد مقبلة على كارثة أمس الأول السبت، ولاشك فى أن هذه الانباء أقلقت المستثمرين ودفعت كثيرا من السياح للإحجام عن زيارة مصر، كما أنها أربكت السوق الداخلية عندما تهافت عديد من المواطنين على شراء بعض السلع وخاصة الغذائية لتخزينها تحسبا لما يمكن أن يحدث.. على أنه لا يمكننا أن ننكر أن العصيان الناجع لابد أن يضر بالاقتصاد، لكنه ضرر مؤقت على كل حال، وهو أحيانا ما يكون واجبا لرفع الضرر الأكبر على حد قول فضيلة المفتى السابق الشيخ نصر فريد واصل.. أما العلة الدائمة فى الاقتصاد المصرى منذ قيام الثورة فهى ترجع إلى تخبط المجلس العسكرى فى تسيير شؤون البلاد، وخاصة فيما يتعلق بالامن الذى انهار انهيارا تاما رغم توالى ثلاثة وزراء على وزارة الداخلية. فشل المجلس فى إدارة الملف السياسى، خاصة فشله فى تحقيق مطالب الشعب المنادية بإنجاز المحاكمات والقصاص للشهداء والتطهير والأجور العادلة والكشف عن اللهو الخفى وغيرها - هو الذى أدى إلى الفشل الأمنى وأدى إلى تردى أحوال الاقتصاد حتى إن غالبية المواطنين لم تشعر بالتغيير، بل إن حالهم ازداد سوءاً.. صحيح أن يوم السبت قد مر دون أن تحدث الفوضى المتوقعة، لكن أحدا لم يستبشر بأن أحوال الناس سوف تتحسن، كذلك فإن أحدا لا يستطيع أن يضمن أن الدعوة للإضراب أو العصيان لن تتكرر فى المستقبل.. المشكلة لن تحل بطواف مدرعات فى الشوارع تحمل لافتات «حماية الشعب».. الشعب يحتاج إلى حماية من المجلس العسكرى الذى لا يستطيع ولا يريد أن يتناغم مع أشواق الثورة.